4 أغسطس 2010

«الراي» تطرح السؤال الكبير مع غياب رائد الاجتهادات المتقدمة وصاحب الرؤية المعاصرة
من يملأ فراغ المرجعية بعد فضل الله... وهل يصح تقليده رغم رحيله؟



|بيروت - من ريتا فرج|

مع رحيل المرجع العلاّمة محمد حسين فضل الله، المجتهد، والعالِم الديني، احتلت أسئلة المرجعية والتقليد حيزاً كبيراً لدى مقلديه. فالسيد الوافد من سلالة أهل البيت، ومن الحلقة المتواصلة لعلماء جبل عامل والنجف الأشرف، ترك فراغاً مرجعياً، ورأى البعض أنه آخر المرجعيات التي مثل حضورها الكاريزمي والفقهي المتجدد قاعدة للتواصل بين الجمهور الشيعي والإمام في المعنيين الديني والسياسي.
أسئلة كثيرة طرحت بعد وفاة فضل الله الذي تعمم برداء الاجتهاد غير المنفصل عن حركية الواقع، وترك إرثاً قد يحمي الأجيال من أسئلة الغد. لكن الغياب لم يمنع حق التساؤل، من سؤال المرجعية إلى سؤال التجديد، إلى سؤال تقليد المرجع بعد وفاته. وبدا كأن السيد كان مدركاً لحجم تأثيره عند جماعته ومقلديه، فصوره المنتشرة في أحياء بيروت وضاحيتها الجنوبية، كأنها تحاكي كل ناظر إليها سواء من الذين انتسبوا إلى التشيع في معناه الديني، أو ممن شغلهم سؤال المرجعية بعد فضل الله من المنتسبين إلى أهل المعرفة.
المرجعية والتقليد عند الشيعة الاثني عشرية لم يكونا إنتاج لحظة تاريخية معاصرة، بل شكلا امتداداً تاريخياً ارتبط بفكرة الحوزة الدينية المستقلة مادياً وسياسياً. وينسب إلى المحقق الكركي (المعروف بالمحقق الثاني) إنشاء أول حوزة علمية كبرى في مدينة أصفهان، وإلى تابعه الملا عبد الله التستري دعمه الحوزة الكبرى في المدينة عبر توسيعها وتطويرها وإدخال العلوم العقلية إلى جانب العلوم النقلية إليها، اذ أدخل اليها الحكمة والفلسفة والتصوف والرياضيات إلى جانب المواد الدينية. ثم تنافست مع حوزة أصفهان حوزات أخرى في النجف والبحرين وجبل عامل.
تعد مرتبة آية الله العظمى أعلى المراتب العلمية والدينية لدى الشيعة الاثني عشرية، وتبدأ المرجعيات طريقها في سن مبكرة، حين تلتحق بالحوزة ومدارسها الدينية، ثم تمر بحلقات متصلة من الدرس التلقيني وامتحانات صعبة، تهدف أساساً إلى إبراز استعدادها وحصرها ضمن ذوي الاستعداد العلمي ممن يستكملون طريق الدراسة وتصفية العناصر الضعيفة غير الصالحة. وتستمر هذه التصفية خلال مراحل الدراسة المختلفة حتى مستوى الدراسات العليا والحصول على المراتب العلمية، بدءاً بمرتبة واعظ فمجتهد ثم حجة الإسلام، تليها حجة الإسلام والمسلمين وصولاً الى آية الله ثم آية الله العظمى. ويحق للمرجع عندئذ أن يكون له مقلدون يقدمون إليه زكاة أموالهم وحق الخمس والنذور والهبات، ويقدم إليهم الفتوى والإرشاد في أمورهم الدينية والدنيوية.
يستمد مفهوم المرجعية أصوله وجذوره من المرجع أو الفقيه، وهو كل من زاول النظر في الأدلة، واستفرغ وسعه في الاجتهاد حتى وصوله إلى القدرة على استنباط الحكم الشرعي من تلك الأدلة. والفقيه هو كل من امتلك الكفاءة والقدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية. ويستمد المرجع سلطته من فكرة التقليد التي برزت في الفكر الشيعي الاثني عشري، واعتبرت التقليد واجباً شرعياً على كل شيعي إمامي، يلتزمه في الدين والحياة، وألزمت كل مُكلف لم يبلغ درجة الاجتهاد أن يكون في عباداته ومعاملاته مقلداً.
مرجعية السيد محمد حسين فضل الله وسط مقلديه لم تكن سهلة، وحين أعلن نفسه مرجعاً تعرض لمواقف حادة من المرجعيات الدينية في النجف وقم، ولكن ذلك لم يمنعه من تثبيت دعائم مرجعيته، بعدما استحوذ على كل الشروط التي تخوله الوصول إلى رتبة آية الله العظمى. وما أعطى للسيد فضل الله حضوراً عند مقلديه داخل لبنان وخارجه، أنه أفتى في العديد من القضايا والمسائل الخلافية بروح عصرية، تأخذ في الاعتبار متغيرات الواقع، والوسائل التي يوفرها العلم لتسهيل أمور الناس، مثل بداية شهر رمضان، والقوامة، وحقوق المرأة في الإسلام. وبصرف النظر عن الحيز السياسي والدعوي والإرشادي الذي احتله السيد الراحل عند «حزب الله»، يبقى فضل الله من أكثر العلماء الشيعة الذين أثارت فتاواهم جدلاً واسعاً. ولعل الفتاوى المتعلقة بجواز الاستنساخ وأحقية المرأة في الدفاع عن نفسها إن أقدم زوجها على ضربها، كانت الأكثر وقعاً وقد أفتى فيها: «إذا مارس الرجل العنف الجسديّ ضدّ المرأة، ولم تستطع الدفاع عن نفسها إلا بأن تبادل عنفه بعنف مثله، فيجوز لها ذلك من باب الدفاع عن النفس».
بعد رحيل السيد طرحت «الراي» ملف المرجعية الدينية ودورها وشروط التقليد والأسئلة التي تُثيرها في ظل الواقع المتغير، على كل من السيد محمد حسن الأمين، والشيخ أحمد طالب أحد مؤسسي «اللقاء العلمائي المستقل»، وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية ومؤلف كتاب «الاجتهاد والمنطق الفقهي في الإسلام» الدكتور مهدي فضل الله.


محمد حسن الأمين: إذا مات المرجع وكان في نظر مقلديه الأعلم
جاز لهم البقاء على تقليده

يؤكد السيد محمد حسن الأمين أن فضل الله كان من العلماء المجددين، ويلفت الى إمكان تقليد المرجع بعد وفاته، معتبراً أن فضل الله شكل نموذجاً وليس قاعدة. ويشرح الأمين العلاقة التاريخية بين المرجع والسلطة، محدداً أهم الشروط التي يجب أن تتمتع بها المرجعية عند الشيعة الاثني عشرية.

• بعد وفاة السيد محمد حسين فضل الله، ما تقويمك لمسيرته في حقل الاجتهاد الديني، وهل يمكن القول إنه من أبرز علماء الشيعة المجددين؟
- لا شك أن السيد فضل الله رحمه الله كان من أبرز علماء الشيعة في هذا العصر، وكان مرجعاً دينياً لعدد كبير من الشيعة في لبنان وخارجه، وهو من العلماء المجددين الذين عالجوا قضايا ومشكلات فقهية بروح معاصرة، وبرؤية مستقبلية متقدمة، إستناداً الى تراث فقهي شيعي عريق، تضاف إليه ثقافة تحاكي العصر. هذا بعض ما لهذا الرجل من حق وجب قوله لمناسبة رحيله المؤسف. لا يختلف السيد فضل الله عن غيره من الفقهاء لجهة عملية الاجتهاد والأصول التي يتبعها العالِم في هذه العملية، إلاّ أنه يختلف بأن له رؤية معاصرة للمسائل والأحكام المتغيرة بتغير العصر، كمسألة الهلال في شهر رمضان، التي استطاع أن يقدم اجتهاداً بشأنها يعتمد على المعطيات الفلكية العلمية، بدلاً من وجوب الرؤية البصرية. كما قدم اجتهادات متقدمة بشأن حقوق المرأة، وغيرها من المسائل التي برزت فيها رؤيته الفقهية الملائمة لحركية الواقع المتغير. وهذا الأمر ليس بدعة في الدين، فمن المستقر لدى الفقهاء أن الأحكام متحركة تتطور باختلاف الزمان والمكان، وهذا ما عمل عليه السيد فضل الله طوال مسيرته كمجتهد وداعية.
• السيد فضل الله تمتع بدائرة واسعة من الأتباع والمقلدين في لبنان وخارجه. ما الذي أتاح له هذا الحيز على مستوى التقليد، هل هو نهجه التجديدي أم غياب المرجعيات الدينية عن الساحة اليوم؟
- من الطبيعي بعد غياب المرجعيات الفقهية الكبيرة كالسيد الخوئي والإمام الخميني وغيرهما، أن تبرز مرجعيات جديدة، وكان أحدها السيد محمد حسين فضل الله الذي تمتع بكفاءة علمية وفكرية بالإضافة إلى كفاءته الفقهية. والسيد فضل الله أمضى حياته داعية دينية، الأمر الذي عرفه للناس عبر كتاباته ومحاضراته ومساهماته في المؤتمرات الفكرية.
• إلى أي مدى يمكن القول إن حركة الاجتهاد والتقليد عند الشيعة تمثل إمتداداً تاريخياً لعلماء جبل عامل والنجف الأشرف، وهل يمكن القول إن السيد فضل الله يمثل الحلقة الأخيرة للمرجعيات الدينية البارزة؟
- المرجعية لدى الطائفة الشيعية ليست حكراً على جنسية دون أخرى، فالمرجع يكون عربياً ويكون فارسياً، وغير ذلك من الجنسيات، شرط أن تتوافر فيه مواصفات المرجعية. ولكن جبل عامل بصيغة خاصة برز فيه عبر التاريخ عدد كبير من العلماء، كان لهم فقه المرجعية في نطاق جبل عامل وأحياناً على مستوى العالم الشيعي. ولكن ليس بالضرورة أن تتواصل هذه المرجعية، فربما يمر زمن لا يكون فيه مرجع من جبل عامل، وتكون المرجعية في العراق أو إيران. وفي كل الحالات فإن المرجعية لدى الطائفة الشيعة متعددة غالباً، ولا تنحصر بمرجع واحد، والسيد فضل الله كان أحد المراجع في مرحلتنا الراهنة.
• بعد رحيل فضل الله طرحت أسئلة كثيرة حول إشكالية التقليد من بعده. ما شروط التقليد، وهل يمكن تقليد المرجع بعد وفاته في ظل الأسئلة الجديدة التي يطرحها المستقبل؟
- شروط التقليد عند الشيعة تتحدد عبر موضوع الاجتهاد والأعلمية، فمن يتوافر فيه شرط الاجتهاد والأعلمية يمكن أن يكون مرجعاً. وقد أشرنا إلى أن المرجع لا تحدده جنسية أو قومية معينة، والشيعة يقلدون المرجع الحي، وإذا مات المرجع وكان في نظر مقلديه هو الأعلم جاز لهم البقاء على تقليده وإلاّ فعليهم أن يرجعوا إلى مرجع جديد. وعلى الذين يريدون التقليد ابتداءً أن يختاروا مرجعاً حياً بحسب رأي أكثرية الفقهاء. وليس من الضروري أن يكون للسيد فضل الله وارث في المرجعية في لبنان بالذات، فيمكن للشيعة في لبنان الرجوع إلى مراجع آخرين، وهم متوافرون في المراكز الشيعية العلمية كالنجف الأشرف وقم وغيرهما. ونعتبر أن المرجعية يحب أن تكون متلائمة مع المتغيرات والتطورات التي تحدث على مستوى الفكر والاجتماع الإسلامي. وبالتالي، نعتقد في إمكان بروز مجتهدين يتمثلون وقائع العصر وتطوراته، ويقدمون أحكامهم الفقهية بما يتلاءم مع هذه التطورات ولا ينافي الثوابت الدينية كما هي في القرآن الكريم والسُنة النبوية. السيد فضل الله يشكل أنموذجاً، وليس القاعدة المطلقة، فما زال في حقل الاجتهاد مجالات كثيرة لم نقتحمها، وهي في حاجة إلى أصحاب فكر ورؤية جديدة لملء هذه الفراغات التي يسدها فعل الاجتهاد.
• هل تعكس العلاقة بين المرجعية والجمهور الشيعي الأزمة السياسية التاريخية، وهل الإمام يمثل البديل من السلطة المفقودة؟
- تاريخياً لم يكن حضور الشيعة إلاّ نادراً في السلطات أو الخلافات المتعاقبة على المسلمين، ولذلك كانت المرجعية الشيعية تمثل بديلاً من الحاكم، وتجعل من علاقة الشيعة بالمرجعية بديلاً من علاقتهم بالسلطة، من دون أن يؤدي ذلك إلى أي شكل من أشكال الصراع مع السلطة والمرجع إلا في أحوال نادرة، وذلك عندما كانت السلطات تتعسف في التعامل مع الشيعة، فكان المرجع الظل الذي يفيئون إليه ويتمثلون أحكامه.
• التشييع الذي حظي به السيد فضل الله وسط مؤيديه ومقلديه، يكشف مؤشرات مهمة أولها أن فقدان المرجعية عند الشيعة ينتج حالاً من الحزن والصدمة. ما تفسيرك لذلك، وإلى أي حد ترتبط جدلية المرجع والجمهور الشيعي بعقيدة الانتظار؟
- بالتأكيد كان تشييع السيد فضل الله مناسبة لاظهار الحزن والقلق عند عدد كبير من الجمهور الشيعي، الذي كان يجد فيه مرجعاً وقائداً دينياً كبيراً، ولكنهم قد يجدون هذه الصفات مجتمعة في شخص آخر. وفي رأيي هذا شأن الناس في التعبير عن عواطفهم. وبصورة عامة فإن فقدان مرجع ما يولّد هذه الحال من الصدمة، ولو موقتا. أما ارتباط الشعور بالصدمة بعقيدة الانتظار لدى الشيعة فقد يكون ذلك مؤثراً، لكن الانتظار عند الشيعة يجعلهم أقل تأثراً لأن لديهم أملاً بالخلاص الذي تتضمنه عقيدة انتظار الإمام المهدي. والشيعة يؤمنون بهذه العقيدة ويعتبرون المرجع، أو المجتهد بصورة عامة، ممثلاً للإمام المنتظر ولو بصلاحيات غير كاملة ولكنها صلاحيات فاعلة.


أحمد طالب: الفراغ برحيل فضل الله لن يكون سهلاً توافر من يسده

يلفت الشيخ أحمد طالب إلى وجود فراغ مرجعي إثر رحيل فضل الله، مشيراً إلى أهمية مواءمة المرجع بين الدين والواقع. ويعتبر أن المرجعيات موجودة، لكن الأزمة تكمن في توافر شروط المرجعية المتنورة، التي تجيب عن أسئلة الناس عبر التجديد الفقهي.

> ماذا بعد رحيل العلاّمة فضل الله، وما الأسئلة الجديدة التي تُثيرها جدلية العلاقة بين التقليد والواقع المتغير؟
- مع رحيل المرجع السيد محمد حسين فضل الله تبدأ مرحلة حساسة جداً، فالشباب والمثقفون ممن كانوا يجدون في شخصية السيد الضالة التي يبحثون عنها، والماء العذب الذي يرتشفون منه، يبحثون عمن يقدم إليهم ما يقربهم من الفكر الديني بطريقة غير معقدة منسجمة مع منطق العقل وأبعاد الواقع، من دون أن تنقطع عن الأصالة الدينية والنص الملهم. من هنا، نشعر بأن هذا الفراغ الذي أحدثه رحيل هذا العالِم الكبير لن يكون من السهل توافر من يسده، لأن شخصية الراحل لم تكن ذات بُعد فقهي فحسب بل كانت ذات أبعاد فكرية واجتماعية استطاعت أن تعيش تفاصيل الواقع، وأن تقرأ حاجات المجتمع، وأن تواكب تطلعات الشباب، وأن تسهر على قراءة النص الديني في طريقة واعية لاستخراج الحلول التي تعكس العمق الحياتي، الأمر الذي يعكس صورة الدين الإسلامي الحضارية والإنسانية. لقد استطاع السيد فضل الله رحمه الله أن يحسم جدلية التقليد والواقع المتغير في طريقة رائدة، جعلت الأجيال تتعرف على طبيعة العلاقة بين المُقلِد ومرجعيته، بحيث أخرجها من حال التبعية الجوفاء إلى تلمس الحقيقة المعرفية. ولم يقبل فضل الله بأن تكون التبعية مجرد حال انقياد لا تحاكي حركة العقل في بحثه عن الحقيقة، بل أراد أن يأخذ المقلد الى علاقة قائمة على أسس فكرية وعقلية وعلمية، لإقامة نوع من الجدلية الواعية التي تبحث عن الأسباب والدليل، وتناقش في أبعاد الفتوى وأسسها، لإعطاء الإنسان قيمته العقلية والفكرية، وليتم تأكيد المنطق القرآني في إدانة التقليد غير المرتكز على حركية العقل والمبني على التبعية الفارغة.
> هل ترى أن هناك أزمة ستمر بها المرجعية الدينية عند الشيعة بعد غياب السيد فضل الله، وهل هناك من بديل يسد الفراغ المرجعي والتجديدي عند شيعة لبنان؟
- الأزمة التي ستقع ليست أزمة عند المرجعية، فالمرجعيات كثيرة على المستوى الفقهي والأصولي وفقاً للاصطلاح الحوزوي، بل تكمن في وجود أجيال شابة تبحث عن المرجعية الفكرية والثقافية، إضافة إلى التجديد الفقهي. وهذا النوع من المرجعيات لا يسهل حصوله أو تحقيقه لأن التزاوج بين البعد الفقهي والفكري يؤمن الحلول والإجابة عن كثير من التساؤلات التي يطرحها الواقع، والتي لا يكفي للإجابة عنها مجرد العمق الفقهي المتوافر عند العديد من المراجع. وفي رأيي ليس في المدى المنظور من يشار إليه بسد هذه الثغرة، ولو تتبعنا الهواجس الموجودة عند الأجيال خصوصاً الشابة منها والمثقفة في مختلف الدول العربية والإسلامية، لوجدنا أن هناك حال خوف وقلق عندها بعدما كانت تجد بسهولة في السيد الراحل عملية التواصل وعمق الفهم لقضاياها ومشاكلها. وميزة السيد فضل الله تأكيده أنه يستلهم مصدره وفكره من القرآن الكريم، وهذا ما أضفى على فتاواه نكهة خاصة، اعتبرها بعض الناس حالاً تجديدية. ولكن السيد استطاع أن يحرر النص الديني من بعض القيود الزمنية والمكانية، وحاول بمنهجيته الاجتهادية أن يعيد للنص حريته كي ينسجم مع الواقع، ويقدم للناس حلولاً ولا يزيد من مشاكلهم عبر التعقيدات الاجتهادية، وهذا ما ميّزه عن غيره. نأمل أن نرى في المراحل المقبلة وغير البعيدة، من يستطيع الاستمرار في هذه المنهجية، حتى لا تفقد الحركية الفكرية امتدادها وتواصلها، وحتى لا يشعر الناس بأن الإسلام دين صعب، ما يساهم في الابتعاد عنه والتخلي عن قراءته.
> ماذا عن الصوت المرجعي الآخر، وما حيز تمثيله في لبنان؟
- المرجعيات الأخرى في لبنان لها وجودها واحترامها ومقلدوها، ولكل إنسان طريقته، وكان السيد فضل الله يقول ان العلماء كالورود لكل وردة عطرها، والمرجعيات في لبنان تقوم بدورها، ونسأل الله أن يوفقها للقيام بما من شأنه أن يأخذ بالعباد إلى ما فيه مصلحة لهم. في رأيي أن السيد ترك رصيداً فكرياً وثقافياً للأجيال المقبلة دوِّن في شكل تفصيلي منذ نحو ربع قرن، من دون أن يفوت هذا الأرشيف أي شيء، وهذا ربما يخفف من الصدمة التي تلقاها جيل الشباب تحديداً بعد رحيل العلامة فضل الله. وطبعاً في إمكان الإرث الفكري والاجتهادي أن يقدم الأجوبة عن الاسئلة التي يطرحها الباحثون عن الحقيقة.
> السيد فضل الله جمع إلى مرجعيته الدينية مقومات مؤسساتية أتاحت له توسيع حضوره الديني والسياسي والاجتماعي عند شيعة لبنان. إلى أي مدى ترتبط مرجعية السيد بنفوذه المالي وسط غياب الدولة اللبنانية على مستوى التنمية؟
- ترك السيد الرحل رصيداً مؤسساتياً مهماً للإنسان في شكل عام، وليس لطائفته فقط. وكان يمتاز رحمه الله، بعمله المؤسساتي وبإدارته الدقيقة والناجحة، ما جعل هذه المؤسسات تملك القدرة على الاستمرار والعطاء والقيام بواجباتها على أتم وجه. ولم يكن سماحة السيد فردياً أو أحادياً في أسلوب عمله، بل كان يعتمد على كادر إداري مخلص، يستطيع أن يتحمل مسؤولية هذه الرسالة الكبرى بجد وشفافية، وهذا ما كان يخطط له، فالأمور الإدارية يجب ألا ترتبط بأشخاص وإنما بخطة محكمة لتحقيق الأهداف التربوية والثقافية والاجتماعية والرعائية. لا شيء سيتغير على مستوى المؤسسات، وسماحة السيد أرسى القواعد الأساسية لإدارة المدارس ودور الأيتام وغيرها الكثير، وهو بهذه الطريقة قدم لكل إنسان وللمجتمع الطمأنينة. وأهمية السيد فضل الله لا تنحصر في عدد المؤسسات الاجتماعية والتربوية التي أسسها، فما يعطيه هذا الحيز من الحضور يتمثل في الانفتاح الديني واستخراجه الحكم الشرعي المنسجم مع حركية النص والعقل وقراءة الواقع. كل هذا شكل حال طمأنينة لكل من يريد أن يسأل أو يعرف، ووجود السيد بالنسبة إلى كثيرين كان بمثابة الضمان. واليوم، يعيش الناس حالاً من القلق لأنهم يخشون ألاّ يجدوا من يسمعهم، وإذا سمعهم أن يعرف ماذا يريدون، وإذا عرف أن يحسن الإجابة الحكيمة، وإذا عرف الاجابة أن يتقن فن مزاوجتها مع الواقع.
> قراءة النص الديني بمنهجية حديثة يتبناها اليوم العلمانيون والليبراليون. هل الظروف التاريخية الراهنة ستقلص من حركية التجديد الديني عند المرجعيات الدينية لمصلحة المجددين غير المعممين؟
- للعلمانيين والليبراليين مناهجهم الخاصة في معالجة التجديد الديني أو قراءة النص المقدس، فهم لا يريدون للدين أن يكون حاضراً تحت عنوان حركة التجديد الديني. إلاّ أن المجددين الدينيين يسعون إلى القيام بحركة التجديد للحفاظ على موقع الدين في حياة الشعوب، ولإقصاء من يريد أن يبعد الدين عن عقول الناس وقلوبهم. وحركة التجديد الديني في فكر السيد فضل الله أساسها قيام الدين على قاعدة حضارية وانسانية في آن واحد، ليبقى الدين حاجة وضرورة، وليحاكي كل الواقع الإنساني في طريقة تجعله كالدم في شريان الجسد لا يمكن للجسد أن يحيا من دونه. طبعاً، العديد من العلمانيين قدموا نظريات خاصة في قراءة النص الديني، وحتى المجدد الديني حين يقرأ أفكار هؤلاء المبنية على أسس فكرية سليمة، عليه أن يتقبلها برحابة صدر، فإما أن يقبلها من موقع الاقتناع بأدلة مقدميها، وإما أن يرفضها بالحجة المبينة على أسس صحيحة وليس من موقع العناد. والواقع أن حركية التجديد لم تتخذ حيزاً واسعاً في الحوزات العملية داخل النجف وقم، وحتى المناهج التي يعمل عليها غير رجال الدين من الألسنيات وفقه اللغة لا تطبق، وإنما تأخذ بها بعض الحالات الفردية في إطار ما يسمى الاجتهاد الشخصي. وهذه المناهج الجديدة في قراءة النص القرآني لا يقدم عليها الحوزويون لأنها محفوفة بالمخاطر، فهم يتحركون في حقل ألغام، ويجب ألا ننسى عامل الشجاعة الذي يجب توافره عند المجدد.


مهدي فضل الله: مقلدو السيد يستطيعون الاستمرار في تقليده إذا أرادوا

يقدم الدكتور مهدي فضل الله قراءة تاريخية لنشوء فكرة المرجعية وأصولها عند الشيعة الإمامية، محدداً أبرز الشروط التي يجب أن تتوافر في رجل الدين الشيعي لبلوغ رتبة آية الله العظمى. ويلفت إلى أنه في الإمكان تقليد المرجع الميت إذا أراد مقلدوه ذلك كما حدث مع السيد أبو القاسم الخوئي.

> رحيل العلاّمة المرجع فضل الله ترك فراغاً فقهياً ومرجعياً، كيف يمكن مقلدوه تعويض هذا الفراغ؟
- لا شك أن غياب سماحة العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله خسارة وطنية وعربية وإسلامية كبرى، وسيترك فراغاً كبيراً في الساحة الوطنية والإسلامية عموماً، كما في المرجعية الدينية الشيعية لمقلديه من الناحية الفقهية والاجتهادية خصوصاً. لكن المعروف أن لسماحة السيد آراءه الفقهية في مختلف موضوعات الحياة المعاصرة. وبهذه الصفة يمكن مقلدوه الاستمرار في تقليده، إذا أرادوا ذلك، وظلوا يعتبرونه الأعلم والأفضل بين غيره من المجتهدين الأحياء، وذلك على غرار الذين ما زالوا يقلدون مثلاً سماحة المرجع الديني الراحل السيد أبو القاسم الخوئي المتوفى العام 1992 لاقتناعهم بأنه ما زال الأعلم والأفضل بالنسبة إلى غيره من المراجع المجتهدين الحاليين. ولكن لابد من الإشارة إلى أن ثمة رأياً فقهياً يقول ان تقليد الفقيه الحي أفضل من تقليد الفقيه الميت، لأن الفقيه يجب أن يكون على اطلاع دائم على علوم عصره، ومحيطاً بمشاكله المستجدة باستمرار، ما يجعله ملماً بكل المعطيات العلمية والحياتية التي تهم الأمة في حياتها، ويمكنه من تقديم الحلول المناسبة لكل الموضوعات الطارئة في حياة الناس. وإذا استمر مقلدو سماحة العلامة فضل الله أو بعضهم في تقليده، واستجدت أمور لا يعرف له رأي أو حكم فيها، فعليهم في هذه الحال أن يعمدوا إلى تقليد غيره في هذه الأمور. وفي هذه المناسبة، أرى أن سماحة العلامة السيد فضل الله آية من آيات الله في خلقه، خَلقاً وخُلقاً وعلماً. انه أحد المجتهدين المجددين الدينيين في عصره وقد دعا إلى الفهم العقلي الصحيح للدين، ووحدة المسلمين، والحوار العقلي الصادق بين الأديان والحضارات. وآراؤه الفقهية المتعلقة برؤية الهلال في شهر رمضان، ووهب الأعضاء وزرعها والاستنساخ، والعلاقة بين الرجل والمرأة والإرهاب، تؤشر كلها إلى أنه استطاع أن يصالح الدين مع العلم المفيد للإنسان.
> ما تعريفك لـ «آية الله العظمى»، وما الشروط التي يجب توافرها في كل من يبلغ هذه المرتبة الدينية لتولي المرجعية الدينية؟
- تسمية «آية الله العظمى» صفة تطلق على مجتهد من المجتهدين الكبار يُجمع الفقهاء المجتهدون في بلده، كالنجف الأشرف مثلاً، على التسليم برئاسته ومرجعيته الدينية لتميزه بالعلم الواسع الكثير، والعقل الراجح السديد، والفكر اللافت السليم، والخلق المثالي الرائع، المزين بالورع والتقوى وكل الأخلاق الحميدة. والمرجع الأعلى هو المجتهد المطلق في الأصول اللفظية والأصول العملية، الشرعية، (كأصل الاباحة، والاستصحاب)، والعقلية، (كأصل البراءة والاحتياط والتخيير). وله منهاج خاص به في اجتهاده يستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها على غرار أئمة المذاهب الفقهية الإسلامية المعروفة، ويعود إليه وحده الحق في تولي وظائف الأمور الحسبية، وممارسة السلطة والتصرف في الأنفس والأموال. أي أن المجتهد المرجع هو الذي له قواعد في الاستنباط والتخريج وأصول في التطبيق تختلف عن غيره. وحتى يكون المجتهد مرجعاً يرجع إليه الناس في شؤون حياتهم الدينية والدنيوية والقضاء والافتاء فيها، لابد له من أن يكون ملماً بعلوم عصره وزمانه، قادراً على قراءة المفاهيم الدينية بما يتناسب مع حاجات عصره وناسه (الفهم الاجتماعي للنص). ولابد من توافر مجموعتين من الشروط في كل من يتصدى للمرجعية:
أولاً: مجموعة الشروط المتعلقة بالشريعة وهي تقسم قسمين: الشروط المتعلقة بالقرآن الكريم والشروط المتعلقة بالسنة النبوية وسنة الأئمة المعصومين. وتتمثل الشروط المتعلقة بالقرآن الكريم في وجوب كون المجتهد المرجع عالماً بمنطوق القرآن ومفهومه، أي عالماً علماً تاماً بالأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن وبطبيعة هذه الأحكام، هل هي بصيغة الأمر الموجب، أم بصفة النهي المحرم، أم بصيغة الكراهية، أم بصيغة الندب، أم بصيغة الإباحة، وهل هي بصيغة العموم قطعاً، أم بصيغة الإطلاق التي تدل على أي فرد، وهل هي بصيغة الخاص الذي يراد به الخصوص، أم بصيغة الخاص الذي يراد به العموم، وهل هي بصيغة العام الذي يراد به العموم، أم بصيغة العام الذي يراد به الخصوص؟ هذا فضلاً عن علمه بعلل الأحكام وعبرها التي شرعت من أجلها، والمسالك التي يمكن بواسطتها معرفة ذلك، والمجمع عليه من هذه الأحكام والمختلف عليه، والآيات التي تضمنت هذه الأحكام، وما ورد في تفسيرها وتأويلها وتنزيلها، والناسخ والمنسوخ منها، وكذلك معرفته بالآيات المتعلقة بموضوع واحد، كموضوع الطلاق، أو الإرث، أو العقوبات، أو المعاملات.
أما الشروط المتعلقة بالسنة النبوية وسنة الأئمة المعصومين، فتتمثل في وجوب كون المجتهد المرجع عالماً بالسنة الفعلية والسنة التقريرية والسنة القولية، أو علم الحديث وأنواعه ومراتبه في الوثاقة: آحاد، متواتر، مشهور، صحيح، حسن، موثق، ضعيف، مرسل، فاسد. هذا فضلاً عن معرفته بعلم الرجال والرواة، والجرح وأنواعه، والتعديل وشروطه، والمرجحات في حال تعارض النصوص بعضها مع بعض أو تزاحمها.
ثانياً: مجموعة الشروط المتعلقة باللغة، وتتمثل في كون المجتهد على معرفة كافية باللغة العربية وأساليبها البلاغية، وطرق دلالة عباراتها، مجمل، مفصل، عموم، خصوص، إطلاق، تقييد، أمر، نهي، وجوب، ندب، تحريم، كراهية؛ ودلالة مفرداتها، حقيقية، كناية، استعارة، ومعاني حروفها، التي يتوقف عليها الاستنباط الصحيح في القرآن والسنة. هذا فضلاً عن معرفته بعلومها من صرف وقواعده وشواذه، ونحو وتفصيلاته، وبيان وخلافاته، وبديع وتكلفاته، بحيث يمكنه ذلك من فهم النصوص الشرعية التي نزلت بها فهماً صحيحاً، لأن أحكام الشرع وألفاظه جاءت باللغة العربية ولا يمكن فهمها من قبل من لا يعرف قواعدها، من نحو وصرف وبلاغة. في اختصار، على المجتهد المرجع أن يكون عالماً بالقواعد الأصولية اللغوية، حتى يتمكن من فهم كتاب الله وسنة رسوله والأئمة المعصومين، إضافة إلى وجوب كونه عارفاُ بمسائل الإجماع، عالماً بأصول الفقه وأقسام الأدلة: عقلية، وشرعية، ووضعية لغوية، وأشكالها، وشروطها، ومقاصدها، بحيث يكون صاحب رأي مستقل في مسائل الأصول، وإلاّ فالمقلد في الأصول مقلد في الأحكام.
> من أين تستمد المرجعية عند الشيعة الأثني عشرية مفهومها التاريخي وأصولها؟
- المسلمون المنتمون إلى الشيعة الإمامية الأثني عشرية كما غيرهم من المسلمين من أهل السنة، يؤمنون بأن السلطة التشريعية والسياسية أو الحاكمية الدينية والسياسية معاً هي في الأصل لله سبحانه وتعالى وحده. والله تعالى أعطى هذه الحاكمية الدينية والسياسية المطلقة لنبيه محمد (ص) على أمته، بحيث أن المسلمين على اختلاف مذاهبهم يؤمنون بأن النبي (ص) كان مبلغاً دينياً لرسالة الله تعالى، كما كان مشرعاً دينياً وحاكماً سياسياً، يتمتع بسلطة مطلقة على أمته من الناحية التشريعية والسياسية. والمسلمون الشيعة يؤمنون بأن النبي (ص) بوحي من الله تعالى ولطفاً بعباده، قد أوصى بالولاية بعده لأثني عشر إماماً من المعصومين من أهل بيته، لمتابعة خط الرسالة الإلهية وحفظها. فعنه (ص): «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي». و«لا يزال هذا الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة من قريش». و«لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً». و«المهدي مني يملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ويملك سبع سنين». وهم يرون، أي المسلمون الشيعة، أن النبي (ص) عندما خطب في جموع المسلمين في غدير خم قال «ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا: «بلى». قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، فإنما جاء ذلك نتيجة للأمر الإلهي الذي قضى بأن يبلغ ما أُنزل اليه من ربه {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليه من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة، 67). والآية 55 من سورة المائدة التي حصرت الولاية بالله تعالى والرسول والإمام علي، إنما نزلت حصراً في عليّ، الذي تصدق بخاتمه أثناء الصلاة، بإجماع المسلمين. كما يرون أن المقصود «بأولي الأمر» في الآية 59 من سورة النساء {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} هم الأئمة المعصومون الاثنا عشر. وأن هذه الآية الكريمة تعطي الولاية الدينية والسياسية بعد النبي (ص) لهؤلاء الأئمة، لأن وحدة السياق والمساواة بين المتعاطفين في هذه الآية تفيد ذلك.
وإذا كان المعصومون بعد الإمام علي لم يتسنَّ لهم ممارسة حقهم الكامل في الولاية أو الإمامة، بسبب الحكام المتعاقبين المتغلبين على السلطة، فإن ذلك لم يؤثر في علاقتهم بالأمة ودورهم في التبليغ والتعليم والتفسير والنصح والارشاد، وحفظ الدين من التحريف والتشويه وسوء التأويل والزيادة فيه والنقص منه. وقبل غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي المنتظر، يروي محمد بن الحسن الحر العامل في كتابه «وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة» أن الإمام المهدي قد أعطى توقيعه المروي عنه والمشهور إلى محمد بن يعقوب لتبليغه إلى شيعته للعمل به، وقد جاء فيه، «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله». وهذا معناه وجوب رجوع الشيعة في معرفة الأحكام في القضايا الحادثة الى العلماء المجتهدين العارفين بأحاديث الأئمة المعصومين وفقههم. ومنذ غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن «المهدي» الكبرى، عرف المسلمون الشيعة الاثنا عشرية نظام الفقهاء المجتهدين الذين ينوبون عن الإمام الغائب الحي في بعض الوظائف الجزئية الدينية، كالافتاء والقضاء في الخصومات، والتعليم، والوعظ والارشاد، والولاية على الأيتام والقاصرين الذين لا وليّ لهم، والولاية على الأوقاف التي لا وليّ لها. أما الولاية العامة التي تشمل السياسة والدولة والحكم، ومنها الولاية على الأنفس والأموال، فاعتبروها موقوفة على الإمام المنتظر حتى يأذن الله بظهوره. وقد ظهرت فكرة المرجعية أو الرئاسة الدينية وتقننت شرائطها منذ أوائل القرن الخامس للهجرة، مع الشيخ المفيد المتوفى العام 413 هـ والسيد المرتضى المتوفى العام 436 هـ، والشيخ الطوسي محمد بن الحسن الملقب شيخ الطائفة، المتوفى العام 460 هـ. واكتسبت طابعها المستقل عن الدولة كجزء من ولاية الإمام العامة، كالقضاء والافتاء والوعظ وإمامة المساجد والولاية على الأيتام القاصرين الذين لا ولي لهم، والولاية على الأوقاف التي لا ولي لها. ومنذ أواخر القرن الثامن عشر، وبفضل جهود كبيرة من بعض الفقهاء ومنهم محمد باقر البهبهائي المتوفى العام 1791، وأبو القاسم الكربلائي، وجواد التبريزي، وعلي أكبر الشيرازي، ومحمد تقي الأصفهاني، تأصلت فكرة المرجعية التي يتزعمها مجتهد كبير يعترف بمرجعيته علماء الحوزة العلمية في بلده: قم، أو النجف، وغير ذلك، ويقلده الكثير من أبناء طائفته من داخل وطنه ومن خارجه. وفي القرن التاسع عشر، برزت المرجعية كمؤسسة مستقلة تتعاطى الشأن الديني والسياسي، مع المجتهد المرجع السيد محمد حسن الشيرازي الذي أسقط من مقر إقامته في النجف بفتواه: «تحريم التدخين والتنباك تحريماً مطلقاً على الإيرانيين، ومن خالف ذلك كمن خالف وحارب الإمام المهدي المنتظر، إمتياز شركة التبغ والتنباك الانكليزية، بعد استجابة مجموع الشعب الإيراني لفتواه، والامتناع عن التدخين. وكذلك مع المجتهد المرجع أحمد بن محمد النراقي الذي رأى أن كل فعل يتعلق بأمور الناس في دينهم ودنياهم لابد من الاتيان به لتوقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، فهو من وظيفة الفقيه.
وفي مطلع القرن العشرين رأى بعض العلماء المراجع في النجف أن للفقيه ما للإمام الغائب من الوظائف في مجال الحكم والإدارة والسياسة. فكان ذلك الأمر تطوراً نوعياً في طبيعة المرجعية ومهمات المرجع. ومن هؤلاء المراجع: آية الله المرجع كاظم الخراساني الذي نعت الشاه الإيراني محمد علي شاه بـ «الضال والمنكر للدين» مطالباً إياه بالعودة إلى المشروطية أو الدستور الإيراني، وأعلن الجهاد على كل من إيطاليا لاحتلالها ليبيا، وروسيا لاعتدائها على إيران، والمرجع محمد سعيد الحبوبي الذي أعلن الجهاد على الانكليز لاعتدائهم على العراق، وترأس بنفسه كتائب العلماء وطلاب العلم لقتالهم، والمرجع الشيخ محمد حسن النائيني صاحب كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» الذي رأى أن جميع الولايات العمومية الدينية والسياسية موكولة للفقهاء، لثبوت نيابتهم في عصر غيبة الإمام المعصوم. وقد مهدت مواقف هؤلاء العلماء المراجع الطريق أمام الإمام الخميني لإعلانه نظرية الولاية العامة للفقيه في الدين والسياسة، وقيامه بتطبيقها بعد انتصار الثروة الإسلامية في إيران العام 1978.


«جيش» من الفقراء يحمي المؤسسات والاستقلال عن «حزب الله» مستمر

المرجع فضل الله يخلف المرجع فضل الله

بيروت - من أحمد الموسوي
لم تمضِ أربعة أيام على رحيل العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، حتى صدر عن مكتبه بيان مقتضب وسط تصاعد الأسئلة عن مرحلة ما بعد السيد على المستوى الاسلامي عموماً، وعلى الصعيد الشيعي خصوصاً. أسئلة تتعلق بما تركه من ارثٍ فقهي، وضمناً أين سيذهب مقلدوه وهم منتشرون في مختلف بلدان الوجود الشيعي وفي مقدمها لبنان ودول الخليج العربي، وبما يتركه من ارث اجتهادي، وضمناً كيف ومَنْ سيتابع مسيرته في الاصلاح وتجديد الفكر الديني، وبما تركه من ارث على صعيد المؤسسات الاجتماعية والتربوية والثقافية والصحية والاعلامية، ومن سيرث هذه «الامبراطورية» التي برع الراحل في بنائها وادارتها فحققت انجازات ونجاحات كبيرة، وقدمت تجربة مميزة في كيفية توظيف الأموال الشرعية والهبات والنذور في خدمة الفقراء من الناس والمحتاجين والأيتام.
يقول البيان «ان فقهاء معاصرين يرون وجوب أو جواز البقاء على تقليد المرجع المتوفى، وعليه يجوز لمقلدي سماحته البقاء على تقليده مطلقاً».
لم يذكر البيان من هم هؤلاء الفقهاء المعاصرون، لكنه قال في شكل واضح بين سطوره، انه لا يتبنى اسم أيٍ من المراجع الأحياء ليعدل المقلدون اليه، ما يعني ان المرشح الوحيد لخلافة السيد فضل الله هو السيد فضل الله نفسه، وهذا من الجديد، الجديد جداً عند الشيعة ومن غير المألوف في فقههم، اذ ان الرأي الأعم والغالب فيه عدم جواز البقاء على تقليد المرجع المتوفى الا في المسائل التي تطرق اليها في حياته وعلى مقلديه العدول الى مرجع حيٍ في المسائل المستجدة، أو في كل المسائل قديمها وجديدها.
الخلافة
أراد البيان السريع الصدور ان يضع حداً للتكهنات والتفسيرات حول من يخلف الراحل على مستوى التقليد، وأراد ان يوضح ان الخلاف مع المراجع الأحياء حول الرؤية الاجتهادية والفقهية ما زال قائماً، وان ينفي ما تردد وأشيع عن ان السيد فضل الله في اللقاء الأخير الذي جمعه بالأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله أوصاه بالمسلمين الشيعة في لبنان من بعده، ما فُسّر على انه مبايعة وتشجيع على مرجعية السيد علي خامنئي مرشد الجمهورية في ايران الذي هو مرجع التقليد للسيد نصرالله و«حزب الله»، وعلى انه دعوة لمقلدي فضل الله للعودة الى كنف الحالة الاسلامية التي كانت قائمة قبل حصول الافتراق بين فضل الله وخامنئي على أثر اعلان الأول مرجعيته العام 1995 والتي اعتبرها الثاني رفضاً لمرجعيته واعتراضاً عليها، وهو الأمر الذي انعكس خلافاً مستوراً بين فضل الله و«حزب الله» استمر أعواماً.
اذاً، المرجع فضل الله سيرث التقليد عن المرجع فضل الله، هذا ما يدعو اليه مكتب العلامة الراحل ولابد من مرور الوقت لمعرفة الى أي حد سيلتزم الجمهور من مقلديه تلك القاعدة الفقهية الجديدة التي تجيز تقليد المتوفى مطلقاً أي حتى لمن يريد الابتداء بالتقليد. وعن ذلك يقول أحد من كانوا من أقرب القريبين من السيد فضل الله في مكتبه مدى خمسة وعشرين عاماً: «مسيرة السيد سوف تستمر لأن أحداً من علماء المسلمين الشيعة والسنة لم ينل ما ناله السيد فضل الله على مستوى التألق في الفكر، والرؤية الفقهية، والاجتهاد، والحركة بين الناس، وهو ترك لكل المسلمين خصوصاً لمريديه زخماً يمكنه ان يستمر عشرات الأعوام اذا أحسن هؤلاء المقلدون والمريدون التعامل مع ارثه على الصعد كافة، فبرحيله طويت صفحة من «الاسلام الحركي» وفُتحت صفحة جديدة من مواجهة حالات التخلف والغلو، والسيد الذي هزم أصحاب هذه الحالات في حياته سيهزمهم بعد رحيله بما تركه من علم ومعرفة ومنهجية عقلانية في معالجة المسائل والقضايا المطروحة».
وعما اذا كان السيد فضل الله قد أوصى قبل رحيله بأي اسم لخلافته مستقبلاً، تتكتم مصادر مكتبه وتشير الى انه كان يبارك بعض تلامذته ويتوسم فيهم خيراً، كما كان يتوسم خيراً بطلائع علماء معاصريه في النجف من المثقفين ثقافة حوزوية وعصرية، ويشعر بالراحة لظهور علماء في حوزة قم من الذين زاوجوا في دراستهم وتدريسهم بين المنهج الحوزوي والمناهج الجامعية العصرية، وكان يرى في ذلك ما يؤسس لبروز مرجعيات معاصرة يمكن التفاؤل بها والرهان عليها.
وعن العلاقة مع «حزب الله» بعد رحيل السيد، تؤكد المصادر الاستمرار في الاستقلال الذي مثله السيد فضل الله، الى جانب الاحترام والتقدير لمسيرة المقاومة ومشروع الممانعة في مواجهة المخططات الأميركية والاسرائيلية ضد المنطقة.
أما بشأن العلاقة مع بعض المرجعيات الشيعية في النجف وقمّ التي ناصبت السيد فضل الله العداء بسبب آرائه واجتهاداته الفقهية، فترى هذه المصادر ان من حاربه قام بذلك لانه مرجعية أخذت من رصيده، أما بعد رحيله فالأمر أصبح مختلفاً، والصراع أو الخلاف سيأخذ منحى آخر، فالمرجع الشخص قد رحل أما المرجع النهج فهو الذي بات في الواجهة بفكره وعلمه اللذين سينتشران بعد رحيله أكثر بين المسلمين شأن العظماء الذين يولدون مجدداً، وبداية الولادة الجديدة لفكر السيد عبر عنها التشييع الجماهيري الشعبي الكبير، والوفود العلمائية والعلمية التي قَدِمَتْ للمشاركة فيه من كل انحاء العالم الاسلامي بجناحيه السني والشيعي، اذ طالما شكل السيد في كل سني حياته جسراً آمناً للتواصل بينهما بما صَهَره من مفاهيم وثوابت لدى الطرفين في قاعدة اسلامية واحدة عبر اصراره على الحديث دائماً عن حياطة الاسلام وحمايته، وعدم الاستغراق في مسلمات المذهب، لأن مسلمات الاسلام هي الأصل عنده، بينما التشييَّع يشكل وجهة نظر في فهم الاسلام، كما هي حال التسنن.
لم ينجح السيد فضل الله في تحقيق أحد أحلامه وهو مشروع «المرجعية المؤسسة» بديلاً من المرجعية الفردية، وكان ذلك من جديد آرائه الفقهية، لكنه نجح في تقديم نموذج مميز في بناء المؤسسات الاجتماعية والتربوية والصحية وادارتها بنجاح قل نظيره في تجارب الآخرين، فقد بدأ الخطوة الأولى مع مبرة الامام الخوئي العام 1979 برعاية من المرجع الشيعي الأعلى في حينه أبو القاسم الخوئي في النجف في العراق، وكان وكيله الشرعي حتى وفاته العام 1993. وبالكفاءة والمقدرة القيادية والادارية، كبرت المبرة الصغيرة، وتحولت مبرات تضم عشرات من المدارس والثانويات ودور رعاية الأيتام. ويبلغ اليوم عدد التلامذة فيها نحو عشرين ألف طالب، بالاضافة الى ايواء نحو ثلاثة آلاف وثلاثمئة يتيم وتكفل تعليمهم حتى المرحلة الجامعية. ومن ثم اتسع فكر بناء المؤسسات فشمل مراكز صحية كمستشفى «بهمن» الذي تبرع ببنائه أحد مقلديه في الكويت، وهو مستشفى بني وفق أحدث المواصفات من حيث البناء والتجهيز والطاقم الطبي، وعدداً من المستوصفات الموزعة على عدد من المناطق اللبنانية، ومراكز رعاية اجتماعية منها مكتب خدمات ينفق سنوياً نحو عشرة ملايين دولار، ومعهدين للعلوم الدينية هما «المعهد الشرعي الاسلامي في لبنان، و«حوزة المرتضى» في سورية، و«محطة البشائر» الاذاعية ومحطة «الايمان» المرئية ومهمتهما التوجيه والارشاد والتثقيف، وغير ذلك من مؤسسات عكس بناؤها جانباً من طريقة تفكير السيد في التعاطي مع المجتمع وبناء المستقبل. ويروي أحد القريبين منه في هذا المجال انه قدّم يوماً مساعدة كبيرة الى شخص طلبها بغية تعليم ابنه في الخارج، ولما قيل له ان هذا الشخص هو ممن شاركوا في الحملات والتهجمات عليك، أجاب: «فليسبني الشيعة المهم ان يتعلموا».
لكن ما مصير هذه المؤسسات؟ وهو سؤال آخر من الأسئلة الكثيرة التي أثيرت برحيل السيد فضل الله، وانبرت معها تكهنات عن وراثة أبنائه لهذه المؤسسات، أو عن ذوبانها في مؤسسات «حزب الله»، أو عن مصير ينتظرها شبيه بمصير تجارب سابقة لمراجع شيعية كبيرة بنوا مؤسسات سرعان ما انطفأت بعد وفاتهم، فلم يُحسن الأولاد أو الورثة أو القيمون عليها من بعدهم حفظها وتأمين ديمومتها واستمرارها.
وعن مثل تلك الأسئلة يجيب المصدر القريب جداً من السيد في مكتبه ان تجربة السيد فضل الله في بناء المؤسسات ستحفظ بكل أمانة، من الهيئة الادارية المنتجة التي ترعاها وتضم مجموعة من أسماء كانت محط ثقة كبيرة عند السيد، ومن جيش من الناس والفقراء والأيتام الذين ترعاهم هذه المؤسسات والذين سيحمونها وهم في الحقيقة ورثتها الفعليون.
واذ يرفض المصدر في مكتب السيد المقارنة بين تجربة السيد في بناء المؤسسات وتجارب أخرى، يكشف خطة عمل كانت قد وُضعت في عهد السيد وباشرافه ومباركته ستظهر تفاصيلها لاحقاً، ومن شانها صون هذه المؤسسات ومنع ذوبانها في أي جهة اخرى سواء «حزب الله» أو غيره، وتأمين استمرار قنوات التمويل لها، عبر التبرعات والخمس والزكاة، وغير ذلك من الأموال الشرعية والهبات كما كان الأمر في حياة الراحل الكبير.


آخر الأسئلة والشعر

آخر ما سأل عنه المرجع السيد فضل الله، قبل دخوله الأخير الى المستشفى، المؤسسات وسير العمل فيها وأخبار فلسطين، وكان قبيل أيام من ذلك وقد شعر بدنو الأجل نظم بيتين من الشعر سيُكتبان نقشاً على ضريحه:
انا حسبي انْ تغشَّاني الدجى
في ظلام الليل آهات جروحي
فالتفاتاتُ حياتي فكرةُ
سوف تبقى حلماً فوق ضريحي


دعا إلى عدم تحنيط الدين وربطه بالتاريخ

رجل الحوار... وتثبيت هوية المرجعية

مسعود محمد
لم يكن لجبل عامل أي علاقة بالدولة الصفوية لأن الدولة الصفوية لم تصل إلى لبنان ولم تصل حتى إلى سورية. وقد كان جبل عامل هذه المدرسة الفقهية الأصولية الأدبية الثقافية التي كانت تخرج العلماء خصوصاً العلماء المسلمين الشيعة فكان هؤلاء العلماء يهاجرون ويعطون إمكاناتهم الثقافية لأكثر من بلد فهناك علماء من جبل عامل ذهبوا إلى الهند، وهناك من ذهب إلى إيران، ومنهم الشيخ البهائي والحر العاملي والمحقق الكركي، وهنالك من العلماء من استشهدوا بسبب ذهنية طائفية معقدة في وقتها، وكان الشيخ زين الدين الجبعي المعروف بالشهيد الثاني يدرس المذاهب الأربعة إلى جانب المذهب الشيعي في مدرسة بعلبك، وكان يسافر إلى مصر وغيرها ليتتلمذ على علمائه لأن الشيعة لم يكونوا في جبل عامل بشكل عام منغلقين على الجانب المذهبي بل كانوا يتتلمذون على علماء المسلمين السنة تماماً كما كانوا يتتلمذون على أيدي علماء المسلمين الشيعة. ولكن الظروف الاقتصادية وغير الاقتصادية أثرت بعض التأثير وبرزت حوزة النجف، ولم يكن العلماء الشيعة يسافرون إلى قم وإنما كانوا يسافرون إلى النجف وكانوا يتتلمذون على علماء النجف، من هنا تبدأ حكاية الاختلاف فيما بين مدرسة قم ومدرسة السيد فضل الله العاملية العربية المنشأ، فمدرسة قم تصدرت الواجهة بعد أن حصل ما حصل من مصادرة صدام حسين للحوزة العلمية في النجف الأشرف فذهب الطلاب إلى قم.
برحيل السيد محمد حسين فضل الله خسر العالم العربي مجدداً فقيهاً وعالماً ورجل حوار من الطرز الرفيع، فالحوار عنده يبدأ «بعيداً عن المصطلح، في حديث الإنسان مع ذاته، في حركة الفكر الداخلية حين يدور الجدال بين احتمال واحتمال، وفكرة وفكرة، وظاهرة ودلالة في نطاق السلب هنا، والإيجاب هناك وذلك هو دوره في صنع العقيدة عند الشخص المنتمي. وربما يتحرك الحوار الداخلي في عملية الالتزام، والاستقامة في الخط والواقع، عندما يدور التجاذب بين منطق العقل ومنطق العاطفة، ونقاط الضعف ونقاط القوة « حول الهدف من الحوار يقول «الوصول إلى وحدة الإنسان في التزاماته الذاتية، فلا يبقى في الازدواجية التي تجعل منه إنساناً يتحرك بين الشيء ونقيضه في عملية اهتزاز فكري وحسيٍ وعاطفي، لأن التعددية المتحركة في الذات لا تمنح الإنسان الطمأنينة والاستقرار».
حول الحوار مع الآخر كان يقول «إذا كان الإسلام يشدد على الحوار الذاتي، على أساس أن يكون العقل قاعدة الإيمان، من حيث هو الذي يحدد الحجة ويقيم البرهان، فإن من الطبيعي أن يشدد على الحوار مع الإنسان الآخر الذي يحمل الفكر المضاد باعتبار أن ذلك يمثل التفكير بصوت مسموع». تميز عن الاسلام السلفي بفتح باب النقاش بالمحظورات «لم تكن هناك موضوعات محددة في الحوار، بل كانت المسألة هي أن كل شيء قابل للحوار حتى وجود الله، ورسالة النبي وشخصيته، والإيمان باليوم الآخر، وغير ذلك من القضايا التي تمثل الموقع الأساس في العقيدة ما أثار القرآن الحديث عنه في الحوار حولها» حول أحقية الحوار لمن تكون يقول «ليس هناك أشخاص ممنوعين من الحوار، فقد لاحظنا أن الله حدثنا عن حواره مع إبليس، كما حدثنا عن حوار الملائكة معه في مسألة خلق الإنسان في الأرض، وتساؤلهم عن الفائدة في ذلك إذا كان يفسد فيها ويسفك الدماء، ما يجعلنا نفكر بأن الإسلام لا يعتبر أي شخص يرتفع من خلال موقعه عن الحوار، فللناس حق المعرفة، وللمعرفة شروطها التي تنفتح على أكثر من احتمال» بالنسبة للسيد كانت الحرية تؤم الحوار فهما صنوان مترابطان بعيدان عن الغوغائية والتعصب والالغائية بالتكفير واخراج الناس من دينهم «إذا كان الإسلام يؤكد الحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة بطريقة علمية موضوعية، فلابد له من حماية حرية المحاور في طرح كل فكر مضاد بطريقته الخاصة، حتى لو كان على خلاف العقيدة العامة للناس، فليس لأحد أن يقابله بعناصر الإثارة الانفعالية في إطلاق كلمات الكفر والضلال والخروج عن الدين وما إلى ذلك من الكلمات المثيرة التي تدفع إلى الغوغاء والإساءة للفكر» الحوار بالنسبة للسيد له شرط أساسي وهو الالمام بموضوع الحوار «إن الإسلام يتقبل أي موضوع، ولكنه يضع شرطاً مهماً، وهو أن يكون المحاور مثقفاً بالفكرة التي يخوض حولها من موقع الفكر المضاد، أو منفتحا على آفاق المعرفة في ما يريد أن يسأل عنه» وكان يستند بذلك الى الآية الكريمة من سورة آل عمران الآية 66 «ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم».
انطلاقاً من القاعدة الإسلامية التي تعتبر موضوع الصراع، بمختلف مستوياته ومجالاته، وسيلة من وسائل الحركة المنفتحة للوصول إلى الهدف والانسجام معه، كان السيد من دعاة الحوار بطريقة اللا عنف، أو الطريقة السلمية التي تعتمد اللين والمحبة أساساً للصراع. كان صاحب منهج للحوار فيما بين المذاهب الاسلامية للوصول الى الحد الأدنى من الوحدة «إن مسألة التقريب تحتاج إلى نوعين من العمل، الأول في الحركة الفكرية بمعنى أن يبحث كل فريق من المسلمين، وفق المعايير الفكرية العلمية، عقائده وخطوطه الفكرية من جديد، بحيث يعرف الشيعة ما هو خط التشيع في العمق، بالمعنى العلمي الذي يمكن لهم أن يدافعوا من خلاله عن أفكارهم وعقائدهم ومذاهبهم الفقهية ومفاهيمهم الإسلامية استناداً إلى المصادر الإسلامية الأصيلة؛ وأن يدرس السنة كذلك عقائدهم ومذاهبهم الفقهية، وفق هذه المعايير أيضاً، بحيث يشعرون أن بإمكانهم أن يدافعوا عن المذهب بطريقة إسلامية منفتحة على كل المصادر الإسلامية، لأن المشكلة التي تواجهنا هي أن كل فريق يحاول أن ينطلق بالحجة مذهبياً لا إسلامياً بالمعنى المنفتح، ولهذا لا نجد هناك لغة للتفاهم بينهم، لأن كلا منهم يتحدث مع الآخرين باللغة التي يحركها في دائرته الخاصة بعيداً عن اللغة الإسلامية الأشمل، لذلك فإننا نلاحظ أن ما يتحدث به السنة والشيعة في خلافاتهم هو ما كانوا يتحدثون به قبل أكثر من ألف عام». كان يدعو إلى عدم تحنيط الدين وربطه بالتاريخ «عندما يرث المسلمون إسلامهم من التاريخ، ولا يمنعوا النظر والفكر في النصوص والمصادر الأصلية أو في طبيعة واقعهم المعاصر، فإن التعصب سيحكم عملية انتسابهم إلى هذا الدين، وسيصبح الإسلام هنا يدخل في دائرة الأرث التاريخي». وكان يرى سماحته في الاختلاف مصدراً للغنى يثري التجربة الاجتهادية الإسلامية ويفتح من خلال الاختلاف الفكري أكثر من أفق. لم يكن خلاف السيد فضل الله مع قم حول هوية المرجعية فقط بل كان حول نقاط خلاف فقهية جذرية لخصها في احدى المقابلات معه نلخصها بما يلي:
• القرآن هو كتاب الله المعصوم وكل من يقول بتحريفه هو إنسان سائر لطريق الكفر.
• أحرم سب أي صحابي بما فيهم الخلفاء الراشدون وأمهات المؤمنين جميعاً بما فيهن عائشة.
• حادثة الاعتداء على فاطمة الزهراء ليست محل وثاق ولا تخضع للرواية الموثقة ولا للتحليل التاريخي.
• لا يجوز أن نتوجه إلى الأنبياء وإلى الأئمة من أهل البيت بالدعاء في طلب الحاجات وإنما نتوجه إلى الله.
• علماء التقارب ما زالوا يعيشون في المؤتمرات التي يكذب فيها البعض على البعض الآخر.
• اجتهاداتي التاريخية والفقهية والكلامية اعتبرها البعض خروجاً على المذهب لذلك كان الموقف من مرجعيتي.
• الصراع الشخصي في قضية المرجعيات ليس بدعاً من الواقع فهناك منافسات حتى في المرجعيات العلمانية أو السنية.
• لا أعتقد بارتداد الصحابة عن الإسلام واتبع الإمام علي في علاقته وتعاونه ونصحه لهم على أساس أنهم مسلمون.
• لا يوجد لدينا مصحف فاطمة وقرآننا (الشيعة) لا يزيد ضمة أو فتحة عن القرآن الموجود لديكم (السنة).
• أتلقى هجوم بعض المرجعيات الشيعية علي بسبب آرائي بعقل زاهد وصبر.
• إدماء الرأس وضرب الأجساد بالسلاسل فيه إساءة بالغة للإسلام ويمثل التخلف.
• المرجعية لا تتأثر بقومية معينة بل الكفاءة العلمية هي الأساس.
• لا أرى أي واقعية للأعلمية فليس هناك في العالم كله من هو اعلم الناس جميعاً.

ليست هناك تعليقات: