8 أغسطس 2010

على أعتاب أربعينك


يغمر القلبَ شعورٌ بالشَّوق ونحن نقترب شيئاً فشيئاً من ذكرى أربعينيّتك؛ ويضطرب حتّى يكاد يُسمع صوته من بين ضلوع الصَّدر.. ربّما لأنَّ هذه المحطّة تمثّل السّقف الّذي أراده المجتمع لطيّ صفحة الذّكرى، والانصراف لشؤون الحياة بعيداً عن ذكرى الموت.. فتخفق النّبضات رفضاً للاستسلام لفكرة النّسيان لكلّ تلك الذّكريات؛ فكيف إذا كان صاحبُ الذّكرى أنت؟!

أمّا ذكراك؛ فقد تركَت منذ أحسسنا أنّك مغادرنا في كلٍّ منّا مسحةَ حُزن، وبصمة أسى، في أعماق النّفس، لن يشفيها إلا لقياك في ذلك العالم الّذي اخترتَ في حياتك مترفّعاً به عن الدّنيا بما فيها..

كيفَ تغيب ويلفّك النّسيان؟! وأنت الحاضرُ في كلّ فكرةٍ نسجْتَ حروفها في العقل، وفي كلّ دمعةٍ في دعاءٍ بين يدي الله صُغْتَ روحانيّتها مع كلّ فقرة، وفي كلّ خشوعٍ في ترتيل آيةٍ رسمتَ خطّها في الواقع، وفي كلّ محطّةٍ من محطّات الصّراع لك موقفٌ علّمتنا منهجه، وفي كلّ منعطف للتحدّيات لك تحدّ درّبتنا على قواعده.. والأخلاق! ذلك الخلق الّذي ينساب منك نسيماً عذباً يصيب بشذاه السّاكن كلّ تعب الحاقدين، ومرض المتعصّبين، فيحسّ الواحد منّا ـ بعد فراقك ـ بأنّنا كنّا أمام خلق الأنبياء، وسماحة الأئمّة، وسموّ الأولياء..

وأمّا الانصراف لشؤون الحياة؛ فمن يعش عصرك يُلاحقْه العملُ في كلّ لحظة، وليس بعدما غادرْتَ مورّثاً المسؤوليّة للأجيال الآتية.. ولكنّ ما يُتعبنا اليوم، أنّا كنّا معك نتّكل على عملك لنجد العذر في ما لا نعمل.. وكم فوّتنا من الفرص!..

وهي المسؤوليّة الّتي تفرض على الواحد منّا أن يتوازن في حزنه فلا يسقطه الجزع، وفي مشاعره فلا يتيه به الأسى، وفي أحاسيسه فلا يضلّ في حقدٍ أو عصبيّة، وفي مواقفه فلا يضعفها إحساسٌ بفقد الشّمس التي كانت تضيء لنا معالم الطّريق واليد التي تأخذ بأيدينا فيه، وفي الأمل الّذي يبقى يُشرق لنا بالله الحيّ الذي لا يموت..

وإذا كنّا اليوم أكثر استسلاماً لفكرة غيابك عنّا، استسلام من لم يصدّق غياب الشّمس عندما تحجبها الغيوم، فإنّنا نعدُك ـ وكم وعدناك فأخلفنا! ـ أنّنا سنلتقي بك في ساحة العمل، حيث سنجدك تحدّد لنا كلّ قواعده وأسسه، في الكلمة والموقف والآفاق، وفي السياسة حيثُ أنسنتَها بالأخلاق، وفي المجتمع حيثُ أفنيت عمرك في خدمته، وفي مؤسّساتك لتستمرّ في خدمة الرّسالة، وفي الثّقافة الإسلاميّة التي حرّكتها في واقع الحركيّين، وفي قضاياك الكُبرى التي لم تفقد بوصلتها حتّى في أشدّ الحالات تحدّياً وألماً، وفي الحياة التي علّمتنا أنّ الله وجهتها وعمقها وامتدادها، وأنّ الرّساليّين ـ وأنت الجوهرة فيهم ـ قيمتهم أنّهم ربطوا النّاس بالله ولم يربطوهم بأنفسهم..

هكذا نحسّ بأنّ المسافة قريبةٌ بيننا وبينك، وأنّ التّراب الّذي حجبنا عنك قد جبلت ذرّاته بإنسانيَّتنا ورساليّتنا، فلم نعد نحسّ بالفقد وأنت فينا مجبولٌ، بالعقل والقلب والوجدان، والحركة والموقف والاتجاه، والأمل والأفق والأهداف..

لن يستريح ـ يا أبتاه ـ قلمي الّذي يكتب عنك؛ وسأحمل، بل سنحمل، قلمَك، لنكتب للبشريّة بخطّك الإسلامَ الحضاريّ المنفتح على كلّ قضايا العصر؛ وحبرُ هذا القلم لا ينتهي؛ لأنّ مداده هو الرّسالة المنطلقة دائماً مع شروق الشّمس، والواسعة وسعَ الكون كلّه، والمستمدّة حروفها من العلياء؛ والله من وراء القصد.

جعفر فضل الله


ليست هناك تعليقات: