8 أغسطس 2010

الشيخ حمود في رثاء الراحل:
لا يزال جوهرةً مكنونة ولايزال كالدرّ العظيم



قال امام وخطيب مسجد القدس في صيدا الشيخ ماهر حمود - من كبار علماء السنة في لبنان - ان المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله رضوان الله عليه لا يزال جوهرةً مكنونة، ولا تزال أهميّته الحقيقيّة مخبوءةً كالدرّ العظيم الّذي لا يعلم قيمته حيث هو. ولا يزال الّذي لم يُقَلْ بعدُ أعظم من الّذي قيل ، مضيفاً: وفي رأينا، لم يقدّره أحدٌ حتى الآن كما يستحقّ.

وقال في مقاله الذ نشر مؤخراً راثياً المرجع الراحل: ليس كثيراً عليه إن سماه البعض لفترةٍ طويلةٍ النّفس الزّكيّة، سواء كان الهدف من تسميته تأكيد صفاته، أو ربط ذلك بموضوعٍ آخر. إنما ليس كثيراً عليه أن يكون النّفس الزّكيّة التي لا تنطوي إلا على خيرٍ ومحبّةٍ وحرصٍ على المؤمنين ورأفةٍ بهم.

نص المقال بعنوان : المحـــب
هي الصّفة التي لازمته منذ أن عرفناه حتى غادر إلى جوار ربّه. قالوا مرجع الانفتاح والتنوير والعقل والمستقبل، قالوا أموراً كثيرةً وكلّها صحيحة، ولكن ما كان ذلك كلّه ليأخذ طريقه إلى الواقع لولا النّفس التي تحتضن ذلك العلم وذلك العقل وتلك التّجربة. الأصل في الصّلاح هو النّفس:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ،﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ، وإلى آخر ما هنالك من آياتٍ في المعنى نفسه. فالنّفس هي الوعاء الّذي يستوعب العلم والتّجربة، وكلّ الطاقات البشريّة. فإن لم يكن الوعاء مناسباً لاستقبال المنح الربّانيّة، فلن يصلح شيء منها.

لقد صلحت نفس هذا الرّاحل الكبير، وعلامة صلاح النّفس أنّه كان محبّاً. تشعر بالمحبّة تتسرّب إليك من كلماته التي ينتقيها، وما بينها من نصائحه الرّقيقة، من قبوله للآخر، من الحوار الّذي اشتهر به، من صبره على أذى أولي القربى والأبعدين، أصحاب الأعذار أو الشّبهات كما الّذين يعلمون. صبر عليهم جميعاً، ورفض بشكلٍ مستمرٍّ أن يردّ على الإساءة بإساءة، بل كان يحتسب الأمر عند الله، ويبتسم راضياً بما حصل، واثقاً من المستقبل الذي سيأتي بهم إلى جادة الصّواب أو يعيدهم إليها.

في رأينا، لا يزال جوهرةً مكنونة، ولا تزال أهميّته الحقيقيّة مخبوءةً كالدرّ العظيم الّذي لا يعلم قيمته حيث هو. ولا يزال الّذي لم يُقَلْ بعدُ أعظم من الّذي قيل، وفي رأينا، لم يقدّره أحدٌ حتى الآن كما يستحقّ. وذلك كلّه لأنّه محبّ، نستشعر من كلماته وفلتات لسانه الحديث الشّريف: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه». وهذه الصّفة التي جعلت أفكاره تتسرّب إلى النّفوس بسلاسةٍ وهدوء، ومن دون ضجيجٍ وجلبة، وكأني به كما وصف الشّاعر:

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ** ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم

هو تماماً كذلك. هل رأيتموه بعد محاولة الاغتيال الشّهيرة، وغيرها؟ هل رأيتموه والقصف ينهمر على المنطقة التي هو فيها؟ هل عاشرتموه في فترات الأخطار المتعدّدة الوجوه والأشكال؟ هل سمعتموه والنّاس يختصمون على أمورٍ كبيرةٍ وصغيرةٍ، ويتّهم بعضهم بعضاً ويتشاتمون، وهو يعطي رأيه بهدوءٍ بلا تشنّج أو خوفٍ من أحد. لماذا ذلك كلّه؟ لأنّه محبّ، محبّ للخير.. أحسب أنّه كان في اللّحظة التي تسقط قربه متفجّرة، لا يحقد على مطلقها، ولا على الّذي كان حريصاً على قتله، ولا على الّذي يفتري عليه ويتأوّل عليه بهتاناً وجحوداً.

نعم، شحَّ العلم أو كثر، كبر المقام أو صغر، نُظِرَ الإنسان أو غُمِر، انطلق في الآفاق أو حشر... أصل الصّلاح هو النّفس، وليس كثيراً عليه إن سماه البعض لفترةٍ طويلةٍ النّفس الزّكيّة، سواء كان الهدف من تسميته تأكيد صفاته، أو ربط ذلك بموضوعٍ آخر. إنما ليس كثيراً عليه أن يكون النّفس الزّكيّة التي لا تنطوي إلا على خيرٍ ومحبّةٍ وحرصٍ على المؤمنين ورأفةٍ بهم، ورضى بما قسم الله، وخير يراه في العدوّ والصّديق على حدّ سواء، يبحث عنه فيلاقيه، لينشر من خلال ذلك الخير المخبوء عند الآخرين، ليبني على ذلك الخير المخبوء خيراً، فيزداد الخير على الخير.. خيراً.

هذا ما نستطيع أن نقوله باطمئنانٍ ويستوعبه الجميع، إلا أنّ أهميّة هذا العالم الجليل في ما لا نستطيع قوله على الملأ، بل ما لم يكن يستطيعه هو بنفسه، ولنا أسوة في العلماء والعظام الذين أسّسوا لفقه الإسلام العظيم. ألا يكفينا مثلاً الإمام الشّافعي الذي قال:

إن كان رفضٌ حبّ آل محمّدٍ ** فليشهد الثّقلان أنّي رافضي

هذا إمام أسّس لواحدٍ من أكبر المذاهب في التّاريخ الإسلاميّ، وجمع في شخصه مواهب متعدّدة، وتميّز بصغر سنّه عندما كان يفتي للنّاس، فها هو يدافع عن نفسه أمام العامّة ورعاع النّاس. ليس كثيراً عليك يا سيّد أن تقضي قسطاً عظيماً من حياتك الشّريفة تدافع عن نفسك ولا يفهمك النّاس أو كثير منهم، ونكرّر أيضاً ما قاله الإمام أحمد بن حنبل عندما اختلف مع من لا يستطيعون فهمه، قال: بيننا وبينكم الجنائز.

هل رأيتم جنازة السيّد؟

إنّه المحبّ.

ليست هناك تعليقات: