26 أغسطس 2010

على ضفاف الوداع لشهر الله

نقترب شيئاً فشيئاً من وداع شهر الله، والنفس لا تزال حيرى في الطريق الذي تسلك، وفي الزاد الذي تحمل، وفي الخطوات التي تخطو.. وليست تدري موقعها من الله؛ هل اقتربت إليه أكثر، أمّ أنّها لا تزال تبتعد عنه كلّما اقترب العمر من نهايته!
هكذا هي الأيّام، تأتيك بشارتها وهي قادمة إليك، فتشمّر ساعدك للعمل، وإذا بك تقف في منتصف الزمن، وقد مضى بسرعة، آخذاً معه الكثير من الفرص السانحة لغسل القلوب الصدئة بماء المناجاة، وتطهير النفوس في محراب الصلاة، وتأصيل الفكر بآيات الكتاب، وتخفيف الهموم بطول السجود..
وهكذا بدأنا نقترب من ليلة القدر التي أخفى الله زمانها عنّا، إغراءً لنا بالتعويض عمّا فات، والتزوّد من لحظاتها الروحيّة المكثّفة، وقد يمّمنا وجوهنا نحو محراب اللازمان، حيث تحلّق الروح إلى أبعد من هذا الكون، لتلتحم بجزيئات النور الذي ينعكس على بحيرة العشق الإلهيّ، في مزيجٍ من غيبوبة الحسّ عن بهرجة الدنيا وزخارفها، ومن حسّ الغيب في قلب مادّيتنا في السير نحو الله، محور الكون والوجود، وميزان الفكر، ونبض المشاعر والأحاسيس..
هي فُرصة آتية قد تعوَّض أبداً، ودونها مسار أعمارنا المستقبليّ، وتثبيت مواقع الخطى في قلب التحدّيات التي تؤجّجها شياطين الجنّ والإنس..
وتنعطف بي الذكرى إلى صوت ليلة القدر، ترنّم معه في المسجد جدرانُه، وتترنّح مآذنه، ويبسط معه المحراب يديه إلى السماء، وتفتح القبّة المظلّلة رؤوس الداعين والمصلّين نوافذها على الملأ الأعلى الذين تتعانق أرواحهم وهم يستمعون إلى الذي تروّح في عمق إنسانيّته، يدعو حتّى يختفي في غيابات العشق للمعبود وحدَه لا شريك له..
تحنّ آذاننا والقلوب إليك وصوتُك مع كلّ فقرة من دعاء «أبي حمزة»، ومع كلّ جملة من دعاء «التوبة»، وكأنّك أنت الدعاء يا من حياتُك كلّها كانت دعاءً يترافق صداه في مدى الأجيال الآتية..
افتقدك شهر رمضان، وأنت حرّكت فيه الزمن حتّى لم يقوَ على اللحاق بك، وتفتقدك النفوس التي كنتَ دليلها إلى الله، في ليلة القدر..
ولكنّها النفوس التي صُغتَ توحيدها بأصالة فكرك النابع «من وحي القرآن»، وبأنس المحبّة لله التي تحلّق في «آفاق الروح»، هي النفوس التي تلتقيك عندما تتلو القرآن في خطوط الحياة، وعندما تخشع في المناجاة بين يدي الله، وعندما تسمو بالخُلُق النبويّ بين الناس..
ولكنّك اليوم وقد امتلأت بكلماتك مسامعُ الزمن، تدعو إلى الله بعيداً عن أيّ ذاتيّة، وتخطّط للمسيرة تحمل شعلتها الأجيال التي لم تفهمك إلا قليلاً، حاضرٌ في العقل فكراً، وفي القلب شعوراً رساليّاً، وفي الواقع حركةً وجهاداً في سبيل الله..
ظنّنا أنّك قد بلغتَ الشوط ـ سيّدي، ويحلو لي أن أناديك: أبي ـ وقد نظمتَ شعراً شعارَ حياتك:
إنّما الغاية أن نبلغ في الشوط رضاهُ


السيد جعفر محمد حسين فضل الله

ليست هناك تعليقات: