30 أغسطس 2010


الإمام عليّ(ع) البطل الرساليّ


بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمد، وعلى آله الطّيبين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

الذّود عن رسول الله(ص)

نستكمل الحديث عن الإمام عليّ أمير المؤمنين(ع)، هذه الشَّخصية الّتي بناها رسول الله، بنى عقلها وروحها وسلوكها، حتّى أصبحت تجسيداً لعقله(ص) وشعوره وأخلاقيَّته. ونشأ عليّ(ع)، كما ذكرنا، في أحضان النبيّ(ص)، وكان يشعر بمسؤوليَّته عنه(ص) وعن المسلمين كلّهم وعن الإسلام كلّه. ولذلك، فإنّ السّيرة تؤكِّد أنَّ المعركة في بدر لم تشغل عليّاً عن رسول الله(ص)، فكان يقاتل ويصرع قادة المشركين، ثمّ يأتي إلى رسول الله(ص) ليتفقّده، وليتعرّف وضعه ويطمئنّ إلى سلامته. وهكذا كان يحمل مسؤوليّة سلامة رسول الله(ص) في تلك المعركة. ثم عندما انهزم المسلمون في الجولة الثّانية (معركة أُحد) أمام المشركين، بعد أن تركوا تعليمات رسول الله(ص) في إلتزام المواقع في جبل أُحد، الّتي كانت تمثّل مواقع الأمن للمسلمين، لمنع المشركين من الالتفاف عليهم، أصيب رسول الله(ص) في تلك المعركة، حتى شجّت جبهته، وكسرت رباعيّة أسنانه، وسقط صريعاً، وقال النّاس إنّ رسول الله(ص) قد مات، واهتزّ بعض المسلمين فقالوا: "من يذهب إلى أبي سفيان ليأخذ منه الأمان لنا". وصمد مسلمون آخرون وقالوا: " إن كان رسول الله قد قتل، فإنّ دين رسول الله باقٍ، فلنقاتل على ما قاتل عليه". ولكن، كان عليّ(ع) يحيط رسول الله(ص) في تلك الحالة، ويحميه من المشركين، خوفاً عليه من أن يأتي أحدهم ليعتدي على رسول الله(ص) في تلك الحالة. فكان في الوقت الّذي قاتل في أُحد قتال الأبطال، تشغله مهمة حماية رسول الله(ص) في تلك المعركة، حتّى حفظ رسول الله(ص)، فخرج سالماً من المعركة، ورجع إلى المدينة.

بسالة عليّ(ع) في واقعة خيبر

وفي واقعة خيبر، عندما أرسل رسول الله رجلاً يتولّى قيادة الهجوم على اليهود وعلى حصنهم في خيبر، لم يكن الرّجل على مستوى القوّة، فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه، أي كأنّه كان يقول لهم إنّ اليهود أقوى منّا، ولن نستطيع أن نهزمهم. ثم أرسل شخصاً آخر كالشّخص الأوّل، وعندما اندفع إلى القتال ووصل إلى الحصن، لم يستطع أن يقتحمه، فرجع مهزوماً، يجبّن أصحابه ويجبّنونه أيضاً. (مثل كثيرين من العرب في هذه الأيّام، والّذين يقولون إنّ الجيش الإسرائيليّ جيش لا يقهر، وأيضاً الّذين كانوا في عام 1948 يقولون "ليس هناك أوامر"، وكانوا ينهزمون أمام اليهود كما انهزموا سنة 1967، حين اجتاح اليهود كلّ الجيوش العربيّة الّتي دخلت المعركة). وعند ذلك، بدأت الأرجحيّة لليهود على المسلمين، لأنَّ قائدين من قادة المعركة انهزما، ولم يستطيعا أن يقتحما الحصن الّذي تحصّن به اليهود. ومعنى ذلك، أنّ المسلمين سوف يرجعون منهزمين، وكأنهم سألوا رسول الله(ص): ماذا سنفعل؟ فأجاب: "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه اللهُ ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه". فكان كلّ مسلم يتمنّاها لنفسه، غير الّذين انهزموا، ولم يكن عليّ وارداً في الحساب، لأنّه كان أرمد العين، يشتكي من عينيه، حتى لا يكاد يبصر بهما، ومن كانت حالته بهذا الشّكل، لا يمكن أن يقود المعركة، ولا يمكن أن يدخل المعركة من الأساس. وقال الرّسول (ص): " ادعوا لي عليّاً"، جيء له بعليّ (ع)، فأخذ الرّسول من بصاق فمه، ومسحه على عين عليّ(ع)، فارتدّ بصيراً. لأنّ المسألة مسألة ما أفاض الله على رسوله من كرامته ولطفه، ثمّ سلّم النبيّ الراية لعلي(ع)، فاندفع مهاجماً الحصن، فاقتحمه وقلع بابه، ثم نصب الباب جسراً يعبر إليه المسلمون إلى داخل الحصن، فدخل المسلمون، ودارت الدّائرة على اليهود، وانتصر المسلمون وانهزم اليهود.

قوّة عليّ قوّة ربّانيّة

ويقول ابن أبي الحديد، شارح النّهج، مخاطباً عليّاً(ع):

يا قالع الباب الّذي عن هزّه عجزت أكفٌّ أربعون وأربع

أي أن أربعة وأربعون شخصاً لا يمكن أن يهزّوا الباب الّذي قلعته بيمينك. وينقل عن الإمام عليّ(ع) أنه قال: "والله ما قلعت باب خيبر بقوّة بشريّة، ولكن بقوّة ربّانيّة"،لأنّ قوّة إيمان عليّ(ع) ومحبّته لله سبحانه ولرسوله (ص) ،ومسؤوليّته عن عزّة المسلمين وكرامتهم وانتصارهم، جعلت قوّته قوّةً مضاعفةً، لأنّ الإرادة الصّلبة، الحرّة، القويّة هي الّتي تقوّي الجسد. وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصّادق(ع) بقوله: "ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة"، أي أنه إذا كانت إرادتك قويّةً ونيّتك سليمة، فإنّها تعطي جسدك قوّةً مضاعفة. فإنّ الجانب النّفسيّ يترك تأثيره على الجانب الجسديّ. وهكذا انتصر المسلمون، وانتصر الإسلام بعليّ(ع).

البطل الرّساليّ في كلّ المواقف

وفي معركة حُنين، اغترّ المسلمون بكثرتهم، ولم تكن لديهم خطّة واضحة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}[التّوبة: 25[، لأنّ الكثرة ليس لها قيمة دون خطّة عسكريّة، ودون تخطيط للنّصر. ودارت الدّائرة على المسلمين، وتعرّضت حياة رسول الله(ص) للخطر، والنبيّ ينادي المسلمين ليأتوا إليه وهم منهزمون، وكان عليّ(ع) في طليعة الّذين أحاطوا برسول الله(ص)، وعملوا على حمايته، حتّى انقلب الحال وانتصر المسلمون بعد ذلك.

وقيمة عليّ(ع) أنّه كان بكلّه لله، فلم يكن يفكّر في نفسه، بل كان يفكّر في الله، وهذا ما ركّز عليه الرّسول(ص): "يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"، فكان يحبّ الله فيتحرّك في الحياة من أجل نصرة دين الله، والإخلاص في عبادة الله، والتّضحية في سبيل الله. وهكذا كان يحبّ رسول الله(ص)، لا من جهة القرابة بين بعضهما البعض، أو المصاهرة، بل باعتبار أنّه رسول الله(ص)، وأنّ محبّته إنما تتحرّك من خلال محبّة الرّسالة، لأنها رسالة الله. وهكذا كان يحيط به (ص) بكلّه، ولذلك كان لا يغيب عن أيّ معركة يخوضها رسول الله، حتى إنّ رسول الله(ص) عندما توجّه إلى تبوك لخوض المعركة، ترك عليّاً بالمدينة، فسأل عليٌ(ع) رسول الله(ص): كيف تتركني وأنا كنت معك في جميع معارك الإسلام وحروبه؟ فعرّفه النبيّ(ص) أنّه لن تكون هناك حرب، ثم قال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنّه لا نبيّ بعدي". والله سبحانه وتعالى ماذا قال عن هارون في القرآن؟ قال موسى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[طه : 29_32]، كأنّ النبي كان يريد أن يشدّ أزره بعليّ، وأن يقوّي موقفه بعليّ، وأن يشاركه عليّ في حمل مسؤوليّة الرّسالة.

ومن هنا، فإنّ عليّاً(ع) في كلّ حياته كان مع رسول الله(ص)، فكان البطل الرّسالي الّذي حمل مسؤوليّة الإسلام كلّه، ومسؤوليّة الرّسالة كلّها، ولذلك قال عنه النبيّ(ص) في واقعة الخندق: "برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه"، لأنّ الإيمان كلّه تجسّد بعليّ (ع)، كما تجسّد الشّرك كلّه في عمرو بن عبد ودّ. ولذلك، فإنّ قتل عليّ(ع) لعمرو جعل الإيمان كلّه ينتصر على الشّرك كلّه {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}[الأحزاب: 25[. وفي بعض التّفاسير، كفى الله المؤمنين القتال بعليّ، لأنّ عليّاً هو الّذي اختصر المعركة وهزم المشركين بعد قتل عمرو، مع أنّ المسلمين كانوا يعيشون الرعب {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }[الأحزاب: 10_ 12[

لكنّ المشكلة، أنّ الكثيرين من المسلمين لم يفهموا عليّاً ولم يعرفوا دور عليٍّ في حماية الإسلام وفي نصرة الإسلام، وكانوا بعد رسول الله يقولون إنّك لا تزال شابّاً والبعض يملكون السنّ المتقدّمة، وهل كانت القضيّة قضيّة سنوات عمرٍ، أم كانت قضيّة جهادٍ وإخلاصٍ لله ورسوله.

والحمد لله رب العالمين.

ألقيت في 19 رمضان 1430هـ


29 أغسطس 2010

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:

الخطبة الأولى

الامام الحسن(ع) .. علم وأخلاق النبوة


قال الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33].

ربيب رسول الله

هو واحدٌ من أهل هذا البيت الطّاهر الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.. وهو أوَّل وليدٍ لعليٍّ وفاطمة(ع)، وأوّل سبطٍ للرّسول(ص)، وثاني أئمّة الهدى؛ إنّه الإمام الحسن بن عليّ(ع)، الّذي التقينا بذكرى ولادته في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك في السّنة الثّالثة للهجرة، في المدينة المنوّرة.

في سنيه السّبع الأولى، تربّى الحسن(ع) في حضن جدّه رسول الله(ص)، الّذي أحبّه كأعلى ما يكون الحبّ، وأحاطه برعايته كأعلى ما تكون الرّعاية، كما أحاط من بعده أخاه الحسين(ع)، وطبعهما بشخصيّته الرّساليّة وعظيم أخلاقه، حتّى قال عنهما: "حسن منّي وأنا من حسن.... حسين منّي وأنا من حسين".

وفي أكثر من حديث، أكَّد رسول الله(ص) وأمام النَّاس، محبّته للحسن والحسين(ع)، وموقعهما في الدّنيا والآخرة، لتنعكس محبَّةً وإجلالاً لهما في نفوس المسلمين، ولتظهر طبيعة دورهما الرّساليّ في المستقبل: "هذان ابناي، اللّهمّ إنّي أحبّهما وأحبّ من يحبّهما".. "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".. "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة".

وقد ورد في سيرة الإمام الحسن(ع)، أنّه كان وهو ابن سبع سنين، يحضر مجلس رسول الله، فيسمع ما جاء به الوحي، فيحفظه، ويأتي إلى أمّه الزّهراء، فيلقي لها ما حفظه.. وكان عليّ(ع) يتعجَّب عندما يجد عندها علماً بما نزل على رسول الله(ص)، دون أن تكون حاضرةً في المسجد، فيسألها عن ذلك، فتقول: من ولدي الحسن...

في مدرسة فاطمة وعليّ

وعاش الحسن(ع) مع الزّهراء الأمّ، المدرسة والقدوة. كان يتطلّع إليها وهي تقوم اللّيل وتدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، حتى سألها: "يا أمَّاه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟"، فقالت له: "يا بنيّ، الجار ثم الدّار".

أيُّ بيت هو هذا البيت؟ بيت عليّ وفاطمة والحسن والحسين الّذي يفيض حبّاً للنّاس.. وأيّ عائلة هي تلك العائلة الّتي تتدفّق منها ينابيع العطاء، وشعارها: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}[الإنسان: 9] ؟.. وأيّ وسامٍ هو أعلى من هذا الوسام الذي حصلت عليه: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}[الإنسان:12].

أمّا عليّ الأب، ذلك القلب الكبير، وباب مدينة علم الرّسول، وقدوة المجاهدين، فقد أعطى ولده من عقله وفكره وجهاده الكثير الكثير، فانطلق الحسن معه، آخذاً منه ذوبانه في الله، وشجاعته وصبره وأخلاقه وإيمانه..

نشأ الإمام الحسن(ع) مع أبيه أمير المؤمنين(ع)، وكان لا يرى حوله همّاً إلا همّ الإسلام وإبقاءه قويّاً.. وخَبر من أبيه الحكمة في القرار المسؤول؛ فالمهادنة خيار إذا اقتضت مصلحة الإسلام ذلك، وهي عنوان قوّةٍ لا ضعف، أمّا إذا اقتضت مصلحة الإسلام الحرب، فموقعه في مقدّمة الجيش.

وكان عليّ(ع) يرى في الحسن(ع) موقعاً متقدّماً في العلم والحكمة وحسن التّدبير للأمور، والإدارة للواقع السياسيّ والاجتماعيّ، لذا كان يعتمد عليه في المهمّات الصّعبة. وعندما كان المسلمون يقصدونه(ع) ليجيبهم عن بعض المسائل وحلّ بعض المشاكل، كان يرشدهم إلى الحسن(ع).

أبعاد الصّلح مع معاوية

واستشهد أمير المؤمنين(ع)، فانتقلت مسؤوليَّة الإمامة إلى الإمام الحسن(ع) ، وكانت الحرب التي فُرضت على أبيه عليّ(ع) لا تزال مفتوحةً مع معاوية، فدرس الحسن(ع) الوضع جيِّداً، ووجد أنَّ المعركة مع معاوية لن تكون رابحةً لو انطلق بها، بسبب التَّعقيدات الّتي كانت موجودةً في المجتمع آنذاك، والمال الّذي أغدقه معاوية، وجيشه المنهك بالحروب الطّويلة. فاتّخذ الإمام قراره، وأوقف الحرب وصالح معاوية، صالحه لا على أساس الاعتراف بشرعيَّة خلافته الّتي لا تملك أيَّ أساسٍ من الشّرعيَّة الإسلاميَّة، بل كون النّتائج السلبيّة للمعركة كثيرة جداً، وثمنها سيكون باهظاً على المسلمين، خصوصاً عندما تسقط كلّ الطّليعة الإسلاميّة المعارضة الّتي يعوّل عليها بكلّ نهضة مستقبليّة مرتقبة.

لم يكن الإمام ضعيفاً كما راح البعض يتحدَّث، وهو الَّذي خبرته الحروب، لكنَّه القويّ الّذي رأى المصلحة الإسلاميَّة في أن يصالح، كي تهدأ الأمَّة، ويساهم هذا الهدوء في تعريفها حقيقة النّظام الأمويّ، ولتهيئة الظّروف لمرحلةٍ قادمةٍ سيقوم بها الحسين(ع).

التصدّي لأمور المجتمع

وهكذا انتقل الإمام الحسن(ع) من الكوفة، مركز خلافة أبيه، إلى المدينة، لمتابعة دوره الرّساليّ، وإصلاح الانحراف الّذي وصل إليه الواقع الإسلاميّ العام.. كان الإمام(ع) يعلم حجم الفساد الّذي آلت إليه الأمور في مجتمع المسلمين، ويدرك حجم النَّقص في البناء الفكريّ والرّوحيّ وفي الوعي السياسيّ الّذي أدَّى إلى ما أدَّى إليه، فقدَّم من خلال سلوكه وأخلاقه ومواقفه، إضافةً إلى علمه، حيث كان مقصداً للعلماء من كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ ومهبط أفئدتهم، قدّم أنموذجاً أشار إليه الإمام زين العابدين(ع) حين قال عنه: "كان الحسن أعبد النّاس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم... وكان(ع) إذا قام في صلاته، ترتعد فرائصه بين يدي ربِّه عزَّ وجلّ.. وكان إذا ذكر الجنَّة والنَّار، اضطرب اضطراب السَّليم، وسأل الله الجنَّة، وتعوَّذ به من النَّار.. وكان لا يقرأ من كتاب الله عزَّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا...} إلا قال: لبّيك اللّهمَّ لبَّيك..."، لأنّه كان يشعر بأنّ الله يناديه الآن.

أراد الإمام(ع) من خلال هذا الجوّ الرّوحيّ، أن يربِّي النَّاس على كيفيَّة ذكر الله، فإذا ذكروه، أن لا يذكروه ذكر الغافلين، وإذا قرؤوا القرآن، أن لا يقرؤوه قراءة اللامبالين، وإذا ذكروا المرور على الصِّراط والوقوف بين يدي الله، أن لا يمرّوا على ذلك مرور السّاهين، بل أن يشعروا بالخوف من الموقف المهيب بين يديه {يومَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُون* إلا مَنْ أتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَليم}[الشّعراء : 88ـ89]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111].

وتنقل سيرة الإمام الحسن(ع)، أنَّه كان إذا دخل المسجد، لا يدخله كما يدخل الواحد منّا إلى بيته، فكان يقف بباب المسجد، ويرفع رأسه إلى السّماء ويقول: "إلهي ضيفك ببابك ـ مسكينك ببابك، فقيرك ببابك ـيا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك، يا كريم...".

إنّه الدّخول الواعي إلى المسجد، المسجد الّذي لا تحدّه جدرانه، بل يمتدّ واسعاً في كلّ آفاق الرّحمة الإلهيّة، والعطاء اللامحدود.

وهكذا أيّها الأحبّة، لم يقتصر دور الإمام(ع) على بناء علاقته بالله، بل سعى في خدمة النّاس والاهتمام بحاجاتهم وشؤونهم، فكان لا يقصده محتاج إلا وخرج بأكثر مما يرغب.. فقد ورد في سيرته، أنّ رجلاً أتاه في حاجة، فقال له: "اكتب حاجتك في رقعةٍ وارفعها إلينا"، كي لا يجد ذلّ السّؤال في وجهه، فرفعها إليه، فأضعفها له، أي أعطاه ضعفي المبلغ الّذي طلبه، فقال له بعض جلسائه: "ما كان أعظم بركة الرّقعة عليه يا بن رسول الله"، فقال(ع): "بركتها علينا أعظم حين جعلنا للمعروف أهلاً".

الأخلاقيَّة الموجِّهة

وعندما قيل له: عرِّف لنا السِّياسة كما تراها، وهو كان لا يراها إلا خدمةً للنّاس، فقال: "هي أن ترعى حقوق الله، وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات، فأمَّا حقوق الله، فأداء ما طلب، والاجتناب عمَّا نهى ـ وفي ذلك خدمة للنَّاس وللحياة ـ وأمَّا حقوق الأحياء، فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخَّر عن خدمة أمَّتك، وأن تخلص لوليِّ الأمر ما أخلص لأمَّته، وأن ترفع عقيرتك ـ صوتك ـ في وجهه إذا ما حاد عن الطّريق السّويّ. وأمّا حقوق الأموات، فهي أن تذكر خيراتهم وتتغاضى عن مساوئهم، فإنّ لهم ربّاً يحاسبهم".

وعندما واجه الإمام(ع) من يختلفون معه، ممن كانوا يشتمونه أو يسبّونه لعقدةٍ في نفوسهم، علّم أمّته الأسلوب الأمثل في التّعامل مع هؤلاء، وتمثّل ذلك من خلال سلوكه مع ذلك الرّجل الشّاميّ الّذي سبّه وسبّ أباه لعقدةٍ تربّى عليها، فبادره الإمام(ع) بالابتسامة والتّكريم واستضافه ثلاثة أيّام، فخرج من عنده وهو يقول العبارة المشهورة: "أشهد أنّك خليفة الله في الأرض، الله أعلم حيث يجعل رسالته.. لقد كنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ الخلق إليّ"..

أيُّها الأحبَّة: ونحن نستعيد ذكرى ولادة الإمام الحسن(ع)، نشعر كم نحن بحاجةٍ لنستحضر كلَّ سيرته الغنيَّة، نستدعي منها ما يعيننا على أمر مجتمعنا اليوم، حيث طغيان الأهواء، وسيطرة المصالح الذاتيَّة، وبروز العصبيَّات العمياء والفتن، فنتعلَّم من الإمام كيف يمكن أن ننزع الحقد والشّرّ من نفوس الآخرين، ونحوّل الأعداء منهم إلى أصدقاء، ونزيل التوتّر والانفعال من ساحة حياتهم، بحيث نتحرَّك من حيث تحرَّك: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34].. "لا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذّةٍ أو شفاء غيظ، بل إطفاء باطل أو إحياء حقّ"..

ونتعلّم من الإمام الحسن إحياء قيمة الإحساس بإنسانيّة الآخر، ولا سيَّما إذا كان الآخر فقيراً مستضعفاً، لا حول له ولا قوّة، والّذي، للأسف، يضطهد في كثير من الأحيان، لفقره ولوضاعة نسبه ولدونيّة موقعه، رغم أنّه قد يكون في القمّة بأخلاقه وإيمانه وتقواه، وهذا ما أشار إليه الإمام في حديثه: "من أراد عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً من غير سلطان، وغنى من غير مال، وطاعةً من غير بذل، فليتحوَّل من ذلِّ معصيةِ الله إلى عزِّ طاعته"، {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13]..

وأخيراً، لا بدَّ لنا من أن نستعيد وصيَّته ونحن في أجواء هذا الشَّهر المبارك، لنعظ أنفسنا بما كان الإمام يعظ به أصحابه، فيقول: "استعدَّ لسفرك، وحصِّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنَّك تطلب الدّنيا والموت يطلبك... واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوّتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك".

الالتزام بخطّ الإمام(ع)

هذا هو الإمام الحسن، الصَّابر، العابد، والطَّائع لربِّه، الّذي أخلص حياته لله. فهل لنا، نحن الّذين نلتزم بإمامته، أن نفكِّر كيف نكون في حياتنا في خطّه، حتّى تكون علاقتنا به علاقة العمل والمسؤوليَّة، أو نكون بعيدين عن الصّورة الّتي أشار إليها عندما قال له رجل: إنّي من شيعتكم يا بن رسول الله.. فقال له الإمام(ع): "يا عبد الله، إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك، فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبةً شريفةً لست من أهلها".

والسّلام على الحسن بن عليّ، يوم ولد، ويوم انتقل إلى رحاب ربِّه، ويوم يبعث حيّاً..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

مؤامرة لتذويب القضية الفلسطينيّة

وفي هذه الأيّام بالذّات يُراد للقضيّة الفلسطينيّة أن تتعرَّض لأبشع عمليَّة اغتصابٍ سياسيّ منذ احتلالها، حيث فتح باب التفاوض المباشر مع العدوّ على مصراعيه، في ظل اختلال التوازن بين المتفاوضين، وحجم الدّعم الّذي يلقاه العدوّ الصّهيونيّ، وتواصل عمليّات الاستيطان، وهدم المنازل المقدسيَّة، وسحق المساجد في الضفَّة، وتواصل الغارات على أطراف غزّة..

إنّ المطلوب من إجراء المفاوضات في ظلّ هذه الأوضاع، هو بكلّ بساطة ووضوح، تذويب المسألة الفلسطينيّة، وتحويلها إلى مسألةٍ اقتصاديّةٍ وأمنيّةٍ كما يتحدّث العدو، لتبدأ الحرب الواسعة النطاق على الأطراف الممانعة في المنطقة.. وقد بدأت الرّسائل المتعدّدة التي تحمل أختاماً أمريكيّةً تارةً، وإسرائيليّةً أخرى، وعربيّةً ثالثة، تلوح لفريق المقاومة والممانعة، متوعِّدة إيَّاها بالويل والثّبور وعظائم الأمور، في حال لم تماشِ هذه التَّسوية وترض بالصَّفقة الجديدة.

خيارات المواجهة

إنّ علينا أن لا نعتبر هذا الواقع قضاءً وقدراً، لأنّ لدى الأمّة خياراتها التي ستنتفض من خلالها على كلّ واقع، وقد تعلّمنا من التّجارب السّابقة، أنّ الأمّة قادرة على أن تصنع معادلاتٍ جديدةً في السّاحة إن هي تحرّكت بوعي ومسؤوليّة، وعرفت كيف تنفذ من خلال نقاط قوّتها ونقاط ضعف الآخرين، وما يجري في هذا العالم من مواجهةٍ للمشروع الاستكباريّ في لبنان والمنطقة، يؤكّد إمكانيّة ذلك، مع وعينا لحجم الصّعوبات ووعورة هذا الطّريق الّذي يعرف المجاهدون والأحرار أنّه طريق ذات الشّوكة.

إنّنا ندعو الفلسطينيّين إلى وعي المخاطر الّتي تتعرّض لها قضيّتهم، وإلى أن يتوحّدوا لمواجهة هذه المخاطر، لأنّ خيارهم ينبغي أن يبقى فلسطين سيّدة عزيزة حرّة مستقلّة، وهي العنوان الّذي ينبغي التّحديق به، لأنّ ما يُعرض عليهم له معنى واحد، هو الاستسلام، في حين أنّ لدى الشّعب والمقاومة الفلسطينيّة أكثر من موقعٍ للقوّة يمكنهم الاستفادة منه في معركتهم المستمرّة.

مواقع الأمّة في دائرة الاستهداف

ونصل إلى العراق، الّذي يُراد له أن يبقى ساحة التّفجيرات المتنقّلة والقتل اليوميّ، ليقدّم التّنازلات أكثر لحساب الاحتلال، وليبقى يعيش في دائرة الفتنة الّتي تأكل الأخضر واليابس.. إنّنا ندعو العراقيّين إلى أن يخرجوا من الدّائرة المفرغة، ليواجهوا معاً كلّ دعاة الفتنة والاحتلال.

أمّا إيران، فإنّنا في الوقت الّذي نُحيّي الجمهوريّة الإسلاميّة على إنجازاتها العلميّة المتواصلة، ومنها الإنجاز الاستراتيجيّ الكبير في مشروع بوشهر، إضافةً إلى الإنجازات على مستوى التّصنيع العسكريّ والسّعي العلميّ والجادّ لغزو الفضاء، نريد للأمّة كلّها أن تدعم هذه الإنجازات، وأن تؤمّن مظلّة حماية سياسيّة وأمنيّة لها، لتستفيد منها في معركة الحريّة والاستقلاليّة الّتي تخوضها على مختلف الجبهات والأصعدة.

لبنان: للجم الفتنة

أمّا لبنان الّذي يلوّح له العدوّ باستمرارٍ، بحربٍ جديدة مدمّرة تستهدف أهله وبناه التحتيّة ووحدة أراضيه وكيانه، فهو لا يزال على حاله؛ غارقٌ في حمى الانقسامات السياسيّة وفوضى الأوضاع الأمنيّة التي تشير إلى حجم الاحتقان النّاجم عن البيئة السياسيّة المعقّدة، والمناخ الدّاخليّ الملتهب، ليضاف ذلك إلى أزماته الاجتماعيّة المتواصلة، وخصوصاً مشكلة الكهرباء الّتي يعجز المسؤولون عن حلّها، أو عن تقديم إجابات مقنعة لاستمرارها.

إنّنا، وأمام ما جرى في الأيّام الماضية من إشكالاتٍ مؤسفة بين أبناء الصفّ الواحد، نرفع الصّوت عالياً لضرورة أن يستنفر كلُّ الحريصين على تعميق الوحدة الإسلاميَّة والوطنيَّة، وأن يحرِّكوا نفوذهم وإمكاناتهم لتفويت الفرصة على كلِّ الّذين يريدون الدّخول على خطّ الفتنة.. وهذا يستدعي مزيداً من الوعي لدى القيادات السياسيّة والدّينيّة، بأن يضعوا الحوادث الّتي تحصل ضمن حدودها الميدانيّة، وعدم إعطائها طابعاً أبعد منها، لتأخذ طابعاً مذهبيّاً أو سياسيّاً، وعدم الانجرار وراء الانفعال أو توتّرات الشّارع، لأنّ أيّ فتنة سوف لن يجني ثمارها إلا أولئك المتربّصون شرّاً بالبلد، الذي يريدون أن يتدفؤوا بنار الفتنة فيه لتحقيق مشاريعهم الاستكباريّة، أو الاستفادة من دخان الفتنة لتغطية المشاريع الّتي ترسم لهذه البقعة الحيّة من العالم، ولا سيّما لبنان، بلد المقاومة والشّعب الحيّ.

إنّنا ندعو كلّ القيادات إلى النزول إلى الشّارع، والعمل على إزالة التشنّج من النفوس، والّذي يُخشى إن بقي مستعراً، أن يستفيد منه كلّ الّذين لا يريدون خيراً لهذا البلد، فلا يكفي الحديث عن الوحدة الوطنيَّة والإسلاميَّة في اللّقاءات والمؤتمرات، دون أن يتمّ النّزول إلى أرض الواقع لتطبيقها.

إنّنا نثق بأنّ القيادات الواعية الحريصة على أمن هذا البلد وقوّته ومقاومته، ستتجاوز تداعيات ما حصل قبل أيّام، مع الاستفادة منه كي لا يتكرّر ويسمح للمصطادين في الماء العكر أن يتحرّكوا بكلّ حريّة.

الامام الصّدر: القضيّة الحيّة

وأخيراً، نلتقي بعد أيّام بذكرى تغييب الإمام السيِّد موسى الصَّدر ورفيقيه، هذه الجريمة الكبرى بتغييب هذا العالِم الّذي مثّل قيمةً إسلاميّةً كبرى، وبعث الحياة في الأمّة على مختلف المستويات، ولا سيّما في بثّ روح المقاومة والموقف الصّلب أمام الحرمان الدّاخليّ.

إنّنا نؤكّد ضرورة إبقاء هذه القضيّة حيّة، وتفعيل المطالبة بها بكلّ الوسائل المتاحة، وندعو النّظام اللّيبـيّ إلى أن يتحمّل مسؤوليّته، ويكشف عن ملابسات هذه الجريمة، والخروج من حالة اللامبالاة التي يتعامل بها مع هذه القضيّة الوطنيّة والإسلاميّة.


التاريخ: 17 رمضان 1431 هـ الموافق: 27/08/2010 م
خط الفتنة... ووعي القيادات السياسية والدينية

في هذه الأيام بالذات يُراد للقضية الفلسطينية أن تتعرض لأبشع عملية اغتصاب سياسي منذ احتلالها حيث فتح باب التفاوض المباشر مع العدو على مصراعيه، في ظل اختلال التوازن بين المتفاوضين وحجم الدعم الذي يلقاه العدوّ الصهيوني، وتواصل عمليات الاستيطان، وهدم المنازل المقدسية، وسحق المساجد في الضفة، وتواصل الغارات على أطراف غزة...

إن المطلوب من إجراء المفاوضات في ظل هذه الأوضاع هو بكل بساطة ووضوح تذويب المسألة الفلسطينية، وتحويلها إلى مسألة اقتصادية وأمنية كما يتحدث العدو، لتبدأ الحرب الواسعة النطاق على الأطراف الممانعة في المنطقة... وقد بدأت الرسائل المتعددة التي تحمل أختاماً أميركية تارةً، وإسرائيلية أخرى، وعربية ثالثة، تلوح لفريق المقاومة والممانعة المتوعدة بالويل والثبور وعظائم الأمور في حال لم تماشِ هذه التسوية وترضى بالصفقة الجديدة.

إن علينا أن لا نعتبر هذا الواقع قضاء وقدراً، لأن لدى الأمة خياراتها التي ستنتفض من خلالها على كل واقع، وقد تعلّمنا من التجارب السابقة أن الأمة قادرة على أن تصنع معادلات جديدة في الساحة إن هي تحركت بوعي ومسؤولية، وعرفت كيف تنفذ من خلال نقاط قوتها ونقاط ضعف الآخرين، وما يجري في هذا العالم من مواجهة للمشروع الاستكباري في لبنان والمنطقة يؤكد إمكانية ذلك، مع وعينا لحجم الصعوبات وصعوبة هذا الطريق الذي يعرف المجاهدون والأحرار أنه طريق ذات الشوكة.

إننا ندعو الفلسطينيين إلى وعي المخاطر التي تتعرّض لها قضيتهم، وإلى أن يتوحّدوا لمواجهة هذه المخاطر، لأن خيارهم ينبغي أن يبقى فلسطين سيدة عزيزة حرّة مستقلة، وهي العنوان الذي ينبغي التحديق به، لأن ما يُعرض عليهم له معنى واحد هو الاستسلام، في حين أن لدى الشعب والمقاومة الفلسطينية أكثر من موقع للقوة يمكنهم الاستفادة منه في معركتهم المستمرة.

ونصل إلى العراق الذي يُراد له أن يبقى ساحة التفجيرات المتنقّلة والقتل اليومي، ليقدّم التنازلات أكثر لحساب الاحتلال، وليبقى يعيش في دائرة الفتنة التي تأكل الأخضر واليابس... إننا ندعو العراقيين إلى أن يخرجوا من الدائرة المفرغة ليواجهوا معاً كل دعاة الفتنة والاحتلال.

أما إيران، فإننا في الوقت الذي نُحيّي فيه الجمهورية الإسلامية في إيران على إنجازاتها العلمية المتواصلة ومنها الإنجاز الاستراتيجي الكبير في مشروع بوشهر، إضافة إلى الإنجازات على مستوى التصنيع العسكري والسعي العلمي والجاد لغزو الفضاء، نريد للأمة كلها أن تدعم هذه الإنجازات وأن تؤمّن مظلة حماية سياسية وأمنية لها لتستفيد منها في معركة الحرية والاستقلالية التي تخوضها على مختلف الجبهات والأصعدة.

أما لبنان الذي يلوّح له العدو باستمرارٍ، بحربٍ جديدة مدمرة تستهدف أهله وبناه التحتية ووحدة أراضيه وكيانه، فهو لايزال على حاله؛ غارقٌ في حمى الانقسامات السياسية وفوضى الأوضاع الأمنية التي تشير إلى حجم الاحتقان الناجم عن البيئة السياسة المعقدة والمناخ الداخلي الملتهب، ليضاف ذلك إلى أزماته الاجتماعية المتواصلة، خاصة مشكلة الكهرباء التي يعجز المسؤولون عن حلّها أو عن تقديم إجابات مقنعة لاستمرارها.

إننا، وأمام ما جرى في الأيام الماضية من إشكالات مؤسفة بين أبناء الصف الواحد، نرفع الصوت عالياً لضرورة أن يستنفر كل الحريصين على تعميق الوحدة الإسلامية والوطنية، نفوذهم وإمكاناتهم لتفويت الفرصة على كل الذين يريدون الدخول على خط الفتنة... وهذا يستدعي مزيداً من الوعي لدى القيادات السياسية والدينية، بأن يضعوا الحوادث التي تحصل ضمن حدودها الميدانية، وعدم إعطائها طابعاً أبعد منها، لتأخذ طابعاً مذهبياً أو سياسياً، وعدم الانجرار وراء الانفعال أو توترات الشارع، لأن أيّ فتنة سوف لن يجني ثمارها إلا أولئك المتربّصون شراً بالبلد، الذي يريدون أن يتدفأوا بنار الفتنة فيه لتحقيق مشاريعهم الاستكبارية، أو الاستفادة من دخان الفتنة لتغطية المشاريع التي ترسم لهذه البقعة الحيّة من العالم، لاسيما لبنان بلد المقاومة والشعب الحيّ.

إننا ندعو كل القيادات إلى النزول إلى الشارع، والعمل على إزالة التشنج من النفوس، والذي يُخشى إن بقي مستعراً أن يستفيد منه كل الذين لا يريدون خيراً لهذا البلد، فلا يكفي الحديث عن الوحدة الوطنية والإسلامية في اللقاءات والمؤتمرات ثم لا تنزل إلى أرض الواقع.

إننا نثق بأن القيادات الواعية الحريصة على أمن هذا البلد وقوته ومقاومته ستتجاوز تداعيات ما حصل قبل أيام، مع الاستفادة منه كي لا يتكرر ويسمح للمصطادين في الماء العكر أن يتحركوا بكل حرية.

وأخيراً، نلتقي بعد أيام بذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر ورفيقيه، هذه الجريمة الكبرى بتغييب هذا العالِم الذي مثّل قيمة إسلامية كبرى، وبعث الحياة في الأمة على مختلف المستويات، ولاسيما في بثّ روح المقاومة والموقف الصلب أمام الحرمان الداخلي.

إننا نؤكد على ضرورة إبقاء هذه القضية حيّة، وتفعيل المطالبة بها بكل الوسائل المتاحة، وندعو النظام الليبي إلى أن يتحمّل مسؤوليته ويكشف عن ملابسات هذه الجريمة، والخروج من حالة اللامبالاة التي يتعامل بها مع هذه القضية الوطنية والإسلامية.



السيد علي محمد حسين فضل الله
تشويه صورة حركات المقاومة لتبييض صورة العدو

في فلسطين المحتلة لايزال المشروع الأميركي الصهيوني هو هو، في تمييع قضيّة فلسطين، لتسقط بالكامل في أحضان التهويد والإلغاء لمشروع الدولة الفلسطينيّة المستقلّة؛ لأنّها لن تكون قابلةً للحياة في ظلّ توسيع المستوطنات المنهجيّ والمدروس.

وفي هذا السياق تبرز حركة الجامعة العربية كأداة في يد المشروع الاستكباري، للضغط على الفلسطينيّين للذهاب إلى المفاوضات المباشرة، نزولاً عند الشروط الصهيونية التي أكد عليها العدو منذ البداية، وهي التفاوض دون شروط مسبقة، ما يعني أن مبادرة الرباعية الدولية التي يتمسك بها الجانب الفلسطيني الرسمي لن تكون إلا ورقة التوت في نفق التسوية الاستسلامية، مع ما يعنيه ذلك من إجهاض لحقوق الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة وخارجها..

إن الخطورة تكمن في أن الانزلاقة الجديدة لن تكسر ظهر الفلسطينيين فحسب، بل ستكون جسراً للعدو لكي يذهب من خلاله بعيداً في مشاريع عدوانية جديدة، قد يكون لبنان ساحة النفاذ منها إلى المنطقة العربيّة والإسلاميّة عموماً، إلى جانب المحكمة الدولية التي يُراد لها ـ في اللعبة السياسية الدوليّة ـ أن تكون جزءاً عمليّة تهيئة أجواء كبرى لمشاريع استكباريّة عدوانيّة جديدة.

وإلى جانب ذلك ندرك تماماً أن الحملة الأميركية - الأوروبية على الجمهورية الإسلامية في إيران، تحت عنوان القلق من أن يذهب المشروع النووي الإيراني في اتجاهات عسكرية، هي جزء من هذا المخطط الرامي إلى تسليط الضوء على حركات المقاومة والممانعة، وإظهار أنها تمثل الخطر على سلام المنطقة وأمنها، لإعطاء الكيان الصهيوني المزيد من الفرص لتبييض صورته، والإعداد لجولات عدوانية جديدة، ومن هنا يمكننا أن نفهم خطورة الانسياق في اللعبة المذهبية التي تسوّق لها الكثير من وسائل الإعلام، ومن الفضائيات التي أصبحت سيفاً مسلطاً على الأمة، في كل الحساسيات والعصبيات التي تُثار خدمةً للمشروع المعادي، وكأن مصائب الأمة في تكالب الآخرين عليها لا تكفيها حتى تُقام غرف العمليات الإعلامية والسياسية لتهديم الهيكل الإسلامي على رؤوس الجميع، في عملية تكفير ممنهجة، تُنفق فيها الأموال الطائلة، التي ينبغي أن تذهب إلى الفئات الفقيرة والمنكوبة بفعل الكوارث الطبيعية التي تصيب بعض بلاد المسلمين اليوم.

وإننا نقول للجميع: إن عليهم ألا يخشوا خروجاً للمحتل من أي موقع من المواقع العربية والإسلامية، بحجة حدوث فراغ لا يمكن ملؤه، لأننا نعتقد أن كل الحلول هي أفضل من وجود الاحتلال الذي جلب القتل والفقر والدمار للمنطقة كلها، ولأن الأمة لا يمكن أن تتنفّس هواء الحرية والسيادة والكرامة الحقيقية تحت حراب المحتل.

ونحن بالمناسبة ندعو العراقيين إلى حماية وحدتهم الداخلية، والإسراع في الخطوات التي من شأنها إخراج المحتل الأميركي تماماً من أرضهم، لأن ما يعانيه العراقيون من تفجيرات وحشية ومجازر جماعية إنما يتحمّل الاحتلال مسؤوليتها بشكل مباشر أو غير مباشر... لذلك فإن كاهل الاحتلال عندما يرتفع عن صدور العراقيين فمن شأنه أن ينعكس إيجاباً على كل المواقع العربية والإسلامية المجاورة للعراق، لا بل على مستوى الأمة كلها.

أما في لبنان، فإننا في ظل هذه المعمعة السجالية التي لا تنتهي فصولاً حول المحكمة الدولية، والإيحاءات الخارجية التي يُراد للبلد أن يسير في فلكها، ندعو المسؤولين جميعاً إلى تحمّل مسؤولياتهم في حماية البلد ووحدته وعدم الوقوع في كمين اللعبة الدولية الساعية لإحراق لبنان أو لاستخدامه كحطب في مدافئ المنطقة ولهيبها المشتعل، وندعو الحكومة إلى القيام بواجباتها الأساسية المتصلة بخدمات الناس وبحياتهم اليومية، وخصوصاً الكهرباء والمياه والمواصلات، لأننا نخشى أن يتحول كل هذا الضجيج إلى مهرب يخرج فيه المسؤولون من مسؤوليات ليلقوا بتبعات تقصيرهم على الوضع السياسي العام. وفي ذلك مزيد من الإرهاق للناس وخصوصاً المستضعفين الذين حملوا أعباء البلد في أيام الحرب والأزمات ويُراد لهم أن يدفعوا الأثمان مضاعفة في المراحل اللاحقة...



علي محمد حسين فضل الله
عندما لا تُلغي نفسك فإنّ العالم كلّه لا يستطيع أن يُلغيك


مرة جديدة يشن العدو الصهيوني اعتداءً جديداً على لبنان، على مرأى ومسمع من قوات «اليونيفيل»؛ ليجد الجيش اللبناني في موقع أداء الواجب الوطني، من خلال القرار السياسي الحاسم الذي انطلق من قيادته، ومن خلال جنوده وضباطه الذين أكدوا أن رهان العدو والإدارة الأميركية على تغيير عقيدة هذا الجيش هو رهانٌ خاسر، وأن الإمكانيات التي بحوزة الجيش الوطني وإن كانت متواضعة، إلا أنها تشكل حافزاً في عملية صنع الإرادة، التي استطاع لبنان - المقاومة والشعب والجيش، أن يكون نموذجاً لها على مستوى العرب والمسلمين.

إن ما حدث في العديسة يشكل رسالة لبنانية بالغة الدقة في هذه المرحلة الصعبة التي يعيشها لبنان والمنطقة، وقد كان الجيش الباسل عنوان هذه الرسالة بعدما روى بدماء شهدائه أرض الجنوب الطاهرة، كما استطاع إيلام العدو وإيذاءه، ولا شك بأن هذه الرسالة ستترك صداها وأبعادها بما يتجاوز البلد الصغير إلى مستويات وآفاق أخرى...

ولكن تبقى المهمّة على عاتق المسئولين في لبنان أن يؤازروا حركة الجيش هذه وأن يدعموا الوحدة الكبيرة الواقعة الداخلية بمواقف ثابتة وغير متأرجحة، ليساهموا في طرد الفتنة التي تعمل لها جهات دولية معروفة تسعى لإخراج العدو من مأزقه، ولذلك فالمسئولية كبيرة أن يتصدى مَنْ في الداخل للفتنة القادمة، كما تصدى الجيش للعدو بكل بسالة وقوة.

وليس بعيداً من لبنان نرصد الهجمة الأميركية والدولية على الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، لطي ملفها بالكامل من خلال الضغط على الفلسطينيين للتسليم بالشروط الإسرائيلية التي اقتضت - بفعل الضغوط الأميركية - في هذه المرحلة أن يذهب الجميع إلى مفاوضات مباشرة على الرغم من أن السلطة الفلسطينية كانت تلوح برفض هذه الخطوة ما لم تقترن بتحقيق تقدم في المفاوضات غير المباشرة.

لقد أظهرت الأيّام صورة الرئيس الأميركي (أوباما) الذي يمارس المزيد من الضغوط على السلطة الفلسطينية ويهدد بعزل الفلسطينيين إقليمياً ودولياً وبقطع المساعدات المالية عنهم إن لم يخضعوا لشروط العدوّ، ويذهبوا للمفاوضات المباشرة، وليظهر للجميع أنّ مواقف المسئولين العرب لا تنطلق من واقعهم، وإنّما من خلال الإملاءات والضغوط الأميركية في هذا المجال.

إننا نحذر من أن الخطة الأميركية الصهيونية التي أوهمت العرب والمسلمين بتجميد الزحف الاستيطاني شكّلت غطاءً للاستمرار الفعلي للاستيطان وإنهاء القضية الفلسطينية وتدميرها، ما جعل العدوّ يقوم بتسريع الخطى لتهويد القدس بالكامل، وللانتهاء من مقولة الدولة الفلسطينية القابلة للسيادة، وتمهيد السبيل لتسوية تفترض العودة إلى الخطط الصهيونية السابقة التي وضعت الأردن على رأس أولوياتها كموقع مفترض للدولة الفلسطينية عبر عدد من المقترحات، بما يُراد له أن يسير قُدُماً ليشكّل عملية ضغط على كل الملفات في المنطقة... ولتستكمل أميركا الإسرائيلية مشروعها التدميري في المنطقة الذي تتوالى فصولُهُ في العراق وأفغانستان.

وإننا في الذكرى الرابعة لانتصار لبنان على العدو في حرب تموز؛ هذا النصر الذي صنعه الله على أيدي المجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله، وشروا بها مرضاته عزّ وجلّ، والذين وقف خلفهم كلُّ الوطن بصبر وثبات، نُدرك أننا قادرون على صنع النصر من جديد، عندما نخلص لله، ونحرّك إرادتنا في عمليّة صنع القوّة، وعندما لا تُلغي نفسك فإنّ العالم كلّه لا يستطيع أن يُلغيك...

ونؤكد هنا أن الخطة العدوانية الاستكبارية على لبنان والمنطقة لا تزال مستمرة، وبأشكال متعددة، ولذلك ندعو الجميع للحفاظ على الجهوزية السياسية والأمنية العالية لمواجهة كل أشكال العدوان.. لأننا عندما نحمي لبنان نقدم نموذجاً للأمة كلها في الحفاظ على العزة وحماية السيادة والعيش بكرامة في مواجهة كل عدوان وكل احتلال.



السيد علي محمد حسين فضل الله
فضل الله... نهجٌ نستهدي به في قضايا الأمة


يطلّ لبنان والمنطقة العربية والإسلامية على مرحلة هي الأخطر والأصعب، في غياب الشخصية الإسلامية الكبيرة المتمثلة بسماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رضوان الله عليه)، الذي ملأ المراحل السابقة علماً وعطاءً وجهاداً، وكرّس منهجاً سياسياً عنوانه قضايا الأمة، وعدم السماح لأي تكتيك من شأنه التأثير على الاستراتيجية فيما هي القضايا الكبرى، وهذا هو المنهج الذي علينا أن نستهدي به، والخط الذي نسير عليه، في ملامستنا لهذه القضايا وللمراحل القادمة.

إن ما يجري على مستوى العالم تبرز ملامحه أكثر من خلال صفقة دولية كبرى، تتحرك فيها الدول الكبرى لضمان سيطرتها على مواقع المستضعفين في العالم، ومنع نشوء قوى ودول مناهضة، ومن هنا يبرز الحرص الأميركي والأوروبي والروسي على منع الجمهورية الإسلامية في إيران من النهوض علمياً، والسعي المتواصل لهذا المحور لمنع قيام حالة سياسية مستقلة في العالم تتمثل بعدد من الدول المناهضة؛ ومن هنا بدأ هذا المحور الدولي بإحكام حلقة المؤامرة والحصار السياسي، وحتى الاقتصادي، على الجمهورية الإسلامية في إيران، للتهويل والضغط عليها، وربما لتهيئة الظروف لمحاولة استهدافها أمنياً...

إننا نشعر بكثير من الخطورة حيال تصريح الرئيس الروسي، الذي أعلن فيه أن «إيران تقترب من الحصول على وسائل إنتاج سلاح نووي»، لأن هذا الكلام يمثل تناغماً مع الكلام الأميركي والصهيوني والأوروبي الذي يحاول أن يسلّط الضوء على البرنامج النووي الإيراني السلمي، فيما يتوارى الحديث عن مئات القنابل النووية التي يملكها العدو الصهيوني، وعما يزيد على سبعة آلاف رأس نووي تملكها كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وهو «رقم جنوني» على حد تعبير الرئيس الكوبي السابق، فيدل كاسترو، الذي قال إن «الحرب القادمة في الشرق الأوسط لن تكون إلا نووية».

وفي موازاة هذا التهديد الاستكباري الدولي نلاحظ أن هذه الدول أطلقت يد العدو لكي يواصل زحفه الاستيطاني داخل فلسطين المحتلة، وفي القدس بالذات، التي تتعرض لعمليات هدم جديدة، فيما يواصل العدو حصاره لقطاع غزة، ويمنع سفن المساعدات الخيرية من الوصول إليها، ويشن الغارات على القطاع فيقتل المزيد من الأبرياء والمدنيين، وخصوصاً النساء، من دون أن يحرّك العالم المستكبر ساكناً...

إن هذا يؤشّر إلى أن حلقة المؤامرة بدأت تتسع، وأن العالم المستكبر بصدد إطلاق يد العدو أكثر لكي يوسّع من دائرة عدوانه، ليتجاوز الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتصل المسألة إلى لبنان الذي يتحدث مسؤولو العدو عن أن الأوضاع فيه «آيلة للتدهور ابتداءً من أيلول (سبتمبر) المقبل».

إننا نحذر من مؤامرة كبيرة وخطيرة تستهدف وحدة المسلمين وخصوصاً في لبنان، من خلال خطة دولية كبرى، رُسمت معالمها أمريكياً وصهيونياً، حيث يُراد للعناوين القضائية الدولية التي بدأت بالسودان، وانتقلت إلى لبنان، أن تفعل فعلها في البناء اللبناني الداخلي، وفي الواقع الإسلامي بخاصة...

إننا نريد للجميع في لبنان أن ينتبهوا إلى خطورة المؤامرة القادمة التي تمّ التحضير لها داخل كيان العدو، وفي الدوائر الاستكبارية العالمية، في سياق خطة متكاملة لإسقاط الهيكل على رؤوس الجميع، ولإشعال نار الفتنة التي نحذّر من أنها لن تصيب الذين ظلموا خاصة... وعلى الدولة بكل مسؤوليها، وجميع الفاعليات ومن يملكون عناصر التأثير من هنا وهناك، أن يكونوا على قدر المسؤولية، وأن يستعدوا لإسقاط حلقة المؤامرة القادمة، والتي يعرف الجميع أنها انطلقت من مواقع معادية، وأنها تهدف في نهاية المطاف للدخول في صفقة مساومة كبرى على حساب أمن البلد، ولحساب أمن العدو، ولا مشكلة عند المعدّين والمخططين والمنفّذين من إدخال دول إقليمية في هذه الصفقة التي يراد لها تغيير الأوضاع على مستوى المنطقة كلها.

وإننا ندعو الجميع إلى حماية المقاومة، والانتباه إلى ما يُحاك جنوباً، وإلى ما يتطلع إليه العدو من تعقيد علاقة «اليونيفيل» بأهل الجنوب، والدخول في معمعة أمنية أو سياسية معقدة، كما ندعوهم لحماية أمن الناس وسلامهم الداخلي الذي يُراد له أن يكون عرضة للهزّات التي تأكل الأخضر واليابس، في صيف لبنان الحار وخريفه الدافئ.



السيد علي محمد حسين فضل الله
فضل الله... باقٍ بالمنهج والمشروع

يدخل لبنان والمنطقة العربيّة والإسلاميّة في مرحلةٍ جديدةٍ بعد رحيل سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، فقد طبعت المرحلة السابقة بطابعه الجهاديّ والعلميّ والتّنويريّ والفقهيّ والسياسيّ وما إلى ذلك.

لقد ملأ سماحته ـ رضوان الله تعالى عليه ـ المرحلة التي عاشها عطاءً متواصلاً استمرّ إلى آخر أيّام حياته، حيث عمل على رعاية شئون الناس، والإجابة عن أسئلتهم، والسؤال عن حال الفقراء والأيتام، ومتابعة قضايا العالم الإسلاميّ حتى آخر لحظةٍ من لحظات حياته، وكان يحاول الانتصار على المرض، كما انتصر على مشقّة الأيّام في كلّ رحلة حياته التي كانت رحلة عطاءٍ عنوانها المحبّة، هذه المحبّة التي عاشها بين يدي الله، وفاضت بها نفسه الزّكيّة الطّاهرة حبّاً للنّاس، حتى لأولئك الّذين لم يفهموه، أو حاولوا الإساءة إليه، لأنَّه كان يستهدي رسول الله (ص) والأئمّة الأطهار، وكان يردّد دائماً: «اللّهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

لقد افتقدت السّاحة الإسلاميّة كلّها لسماحته، وشعر الجميع بحجم الفراغ في غياب هذه الشخصيّة التي حرصت على حماية الواقع الإسلاميّ ومسيرة الوحدة الإسلاميّة التي كان يعتبرها خياراً أوّلاً وأخيراً... وأنّه لا مجال للتّنازل عنه، لأنّ التّنازل والارتداد عنه يعني رهن الأمّة للأعداء، وكشفها للآخرين أمام زحف الفتن، وهجمة الطغاة، ووحشية الاحتلال.

إنّ علينا أن نقف مع كلّ قضايانا عندما نعيش أفق هذه الشّخصيّة الإسلاميّة الكبرى، لأنّ سماحته يستمرّ حيث يستمرّ العمل للإسلام ولقضايا الأمّة، ولذلك فإنّ علينا أن نقف إلى جانب الشّعب الفلسطينيّ في محنته، وفي التحدّيات الكبرى التي تواجهه، وخصوصاً في ظلّ تصاعد حدّة الهجمة التي انكشفت معالمها أخيراً في الاتفاق الأميركيّ الإسرائيليّ، الذي توضّحت معالمه في اللّقاء الأخير بين رئيس حكومة العدوّ والرّئيس الأميركيّ، لتفسح الإدارة الأميركيّة في المجال واسعاً لكيان العدوّ لكي يوسّع دائرة زحفه الاستيطانيّ، لأنّ هذه الإدارة تحتاج إلى أصوات «اللّوبي» اليهودي في الانتخابات الأميركيّة النصفيّة القادمة، ولتدخل البقيّة الباقية من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في دائرة التهويد الذي لا يترك أمام الفلسطينيّين من خيارٍ إلا المفاضلة بين الذّبح بالسيف أو الإعدام رمياً بالرّصاص...

إنّنا ندعو شعوبنا، كما كان يدعوها سماحة السيّد (رضوان الله عليه)، إلى الوقوف إلى جانب الشّعب الفلسطينيّ، وكسر حلقة المؤامرة التي تقوم على إعطاء الفلسطينيّين الفتات مقابل توقيعهم على شطب القضيّة وإنهائها بالكامل.

وعلى شعوبنا أن تدرك حجم المؤامرة في سعي المحاور الدّوليّة إلى تحريك الفتنة في الواقع الإسلاميّ، وتعقيد العلاقات بين الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران والدّول العربيّة المجاورة لحساب العدوّ، وسعي الجهات المعقّدة لإغراق الأمة في الفتن المتحركة من خلال العمليات الإجرامية هنا وهناك، كما حصل ويحصل في العراق، ولإراحة هذا الكيان الغاصب الذي يريد لهذا الوضع أن يمهّد الطّريق لجولاته العدوانيّة القادمة.

أمّا في لبنان، فعلينا أن نكون على حذرٍ شديدٍ حيال ما تسعى بعض الدّوائر الاستكباريّة لحياكته بالتّعاون مع كيان العدوّ واستخباراته، وما الكلام الصهيونيّ الأخير حول إمكانيّة تدهور الأوضاع في لبنان في الشهور القادمة، وبالتّزامن مع صدور القرار الظنّي من المحكمة الدّوليّة، إلا تمهيد لذلك، وتهيئةٌ لأجواء الفتنة الّتي لا بدّ من أن نتصدّى لها ونعمل لوأدها في مهدها...

إنّنا نطلّ على مرحلةٍ جديدةٍ صعبةٍ، وعلينا أن نستعدّ لها على جميع المستويات، وخصوصاً أنها مرحلة معقّدة تتلبّد فيها الغيوم السياسيّة والأمنيّة في غياب الشخصيّة الإسلاميّة الرّائدة التي كانت تحتضن المقاومة وتحمي المقاومين وترعاهم، وتعيش همّ الإسلام على مستوى العالم كلّه.

إنّنا في الوقت الّذي نشعر بأهمية هذه العاطفة الكبرى، وهذا التفاعل الوجدانيّ حيال سماحته (رضوان الله تعالى عليه) من الجميع، نشعر بثقل المسئوليّة الواقعة على عاتق الجميع، والتي تستدعي حركةً دائبةً، وعملاً مسئولاً، وتخطيطاً دقيقاً على جميع المستويات.



السيد علي محمد حسين فضل الله

28 أغسطس 2010

العلامة التريكي:
يجوز البقاء على تقليد المقدس فضل الله لمن يرى أعلميته



علق العلامة الشيخ حسن بن علي التريكي مدير مركز الأبرار في لندن على الجواب الصادر من مكتب البيان للمراجعات الدينية التابع لأحد علماء البحرين الكبار وهو الشيخ عيسى احمد قاسم .

وقال التريكي في معرض رده : رغم صحة مضامين عباراته إلا أن فيه من اللف والدوران والتلاعب بالألفاظ ما يراد منه في نهاية المطاف توصيل السائل إلى طريق واحد هو: عدم جواز البقاء على تقليد السيد فضل الله، وهذا مخالف للموضوعية.

وأضاف: دعوى المجيب أن فلانا أعلم من فلان هذا رأيه وقد يرى المكلف غير هذا الرأي، فثبوت أعلمية أحد المراجع عند شخص من أهل الخبرة، لا تلزم الآخرين بهذا الرأي خصوصا وأن هناك عدد كبير من المراجع المطروحين على الساحة ولهم أتباع ومقلدون، وكل يرى أعلمية مرجعه على غيره.

وقال التريكي: ومن الطبيعي أن من قلد السيد فضل الله (ره) في حياته إنما قلده بناء على اعتقاده أنه أعلم الأحياء، وأنه أعلم من غيره.

مضيفاً : ولا يتعارض هذا مع فتوى السيد فضل الله (ره) بعدم وجوب تقليد الأعلم، وهي لا تعني أن السيد فضل الله (ره) لا يرى نفسه أعلم من غيره، وإنما هي إجازة منه لمن يرى أعلميته أن يقلد غيره ممن هم بعده في الأعلمية.

واستخلص الشيخ التريكي في نهاية جوابه إلى جواز البقاء على تقليد المقدس فضل الله لمن يعتقد بأعلميته.


نص الإستفتاء الموجه مكتب البيان للمراجعات الدينية
السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا من مقلدي سماحة آية الله السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله تعالى فهل يجوز لي البقاء على تقليده ؟؟ علمًا بأن مكتب السيد قد نشر بيانًا بجواز البقاء على تقليده ، فهل نأخذ بقول المكتب ؟؟

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسمه تعالى

لا يجوز البقاء على الميت إلا بفتوى أعلم الأحياء وما عليه فتاوى الأعلم بل فتاوى جميع المراجع الكبار هو جواز البقاء شريطة أن يكون الميت أعلم من الحي وإلا فلا وما عليه الواقع هو أعلمية الحي كالسيد السيستاني من المرحوم السيد فضل الله لذا يتعين العدول ,وأما ما نشره مكتبه رحمه الله فمفاده جواز البقاء لتجويز الفقهاء الأحياء البقاء على الميت ولكن البيان المذكور أغفل اشتراط الأحياء في البقاء على الميت أن يكون أعلم من الحي.

لجنة الإجابة على الأسئلة الشرعية - مكتب البيان للمراجعات الدينية



نص تعليق الشيخ حسن بن علي التريكي على جواب مكتب البيان


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وبعد:

أولا: لا ندري ما الداعي أن يوجه السائل هذا السؤال إلى مكتب هذا العالم، مع كامل أعتزازنا بهذا العالم الجليل، وهو من أعلام الأمة، ولكنه ليس مرجعا للتقليد، وكان الأحرى بالسائل أن يوجه هذا السؤال لمن يراه أعلم من المراجع الموجودين على الساحة.

ثانيا: عنوان الجواب فيه تلبيس على الناس بهذه الطريقة (لا يجوز تقليد فضل الله). كما فيه إثارة لفتنة نائمة رحم الله من أبقاها نائمة وقد ذهب السيد فضل الله إلى ربه وسيجمع الله بينه وبين خالفه ويحكم بينهم وهو أحكم الحاكمين.

ثالثا: الجواب رغم صحة مضامين عباراته إلا أن فيه من اللف والدوران والتلاعب بالألفاظ ما يراد منه في نهاية المطاف توصيل السائل إلى طريق واحد هو: عدم جواز البقاء على تقليد السيد فضل الله، وهذا مخالف للموضوعية.

رابعا: دعوى المجيب أن فلانا أعلم من فلان هذا رأيه وقد يرى المكلف غير هذا الرأي، فثبوت أعلمية أحد المراجع عند شخص من أهل الخبرة، لا تلزم الآخرين بهذا الرأي خصوصا وأن هناك عدد كبير من المراجع المطروحين على الساحة ولهم أتباع ومقلدون، وكل يرى أعلمية مرجعه على غيره.

خامسا: إن من الواضحات أن كل مرجع يتصدى للمرجعية يرى في نفسه الأعلمية.

كما أن من الأمور الثابتة لدى المتشرعة أن من يقلد مرجعا أنما يقلده بعد ثبوت أعلميته ولو على نحو الاحتمال والظن.

ومن الطبيعي أن من قلد السيد فضل الله (ره) في حياته إنما قلده بناء على اعتقاده أنه أعلم الأحياء، وأنه أعلم من غيره.

ولا يتعارض هذا مع فتوى السيد فضل الله (ره) بعدم وجوب تقليد الأعلم، وهي لا تعني أن السيد فضل الله (ره) لا يرى نفسه أعلم من غيره، وإنما هي إجازة منه لمن يرى أعلميته أن يقلد غيره ممن هم بعده في الأعلمية.

وأخيرا وليس آخرا:

الجواب الموضوعي والذي كان من المفترض أن يقال في مثل هذا المقام يتكون من النقاط التالية:

أ ـ إذا مات المرجع وجب على المقلد أن يرجع في جواز البقاء على تقليده إلى أعلم الأحياء.

ب ـ وكل المراجع الأحياء ـ اطال الله أعمارهم ـ بين قائل بجواز البقاء أو وجوب البقاء على تقليد الميت إذا كان أعلم بنظر المقلد.

ج ـ وبالتالي؛ يكون من قلد المرحوم السيد فضل الله (ره) بناء على ثبوت أعلميته لديه، واعتقاده أنه لا يزال أعلم من المراجع الأحياء فإنه يجوز له البقاء على تقليده بعد وفاته.

يبقى على تقليده حتى يثبت لديه أعلمية أحد الأحياء على السيد فضل الله عندها يجب عليه العدول لمن يثبت لديه أعلميته من الأحياء.

وخلاصة الجواب: أنه يجوز لمقلدي السيد فضل الله البقاء على تقليده ما داموا يعتقدون أنه أعلم من المراجع الأحياء.

والله ولي التوفيق.

الشيخ حسن علي التريكي

لندن ـ في 11 رمضان 1431 هـ

العلامة المصطفى متحدثاً عن الراحل:
هو القلب الّذي لم يعرف إلا الحبّ



تحدث العلامة الشيخ حسين المصطفى - من كبار علماء القطيف - في مقال منشور عنه حول ابرز المظاهر التي تميز بها المرجع الديني الراحل آية الله العظمى الامام السيد محمد حسين فضل الله في العلم والمقاومة ومد جسور المحبة وإنعكاس ذلك عملياً من خلال تواصله مع الناس في المسجد والحج أو من خلال المؤسسات المنتشره التي أسسها بهدف صناعة الإنسان .

نص المقال

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ
[البقرة: 207].

وأخيراً... رقد جسدك بسلام، وآن لروحك أن تحلّق إلى بارئها بسلامٍ واطمئنان، بعد أن أسمعتنا نور الله من شفتيك طيلة عقودٍ مثقلةٍ بالتّعب والألم والمعاناة، ولطالما صافحتَ وجوهنا بنظرك، كمن يصافح النّور عيني، ويحمل النّسيم في جذل عذبات ترانيمك.

لقد دفنت محتضناً مسجدك بجوار قاعة جدّتك الزّهراء(ع)، بين محبّيك الذين غذّيتهم من عقلك وقلبك الكثير من آمالك وأحلامك.

هدأت أيّها الجسد الطّاهر، بعد أن استعصت الرّاحة على بدنك، وكأنّك خلقت لتسكر مع المعاناة، فـ"الراحةُ في هذه المرحلة حرام".

ورحلت إلى فردوسك وأنت تحمل الأحلام والطّموحات الكبيرة التي لم تدركها بعد.

وآن لنا أن نسأل أنفسنا أيّها الأحبّة:

من هو العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله؟!

هو باختصار: (القلب الّذي لم يعرف إلا الحبّ).

إنّه تجسيدٌ حيّ لقوله تعالى: ﴿ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران: 119]؛ لأنّه(قده) وعى أنّ الله أرادنا ـ من خلال الإسلام المنفتح على النّاس كلّهم ـ أن نفتح قلوبنا بالمحبّة للآخرين؛ لأنّ المسلم هو الّذي يتحرّك في حياته مع الآخرين على أساس الإخلاص الباحث عن حركة الحقيقة في الوجدان العام من مواقع التّفكير والحوار.

لقد اتّسع قلب سماحته ـ رضوان الله عليه ـ للجميع، حتى لأولئك الّذين شهروا بوجهه سيف العداوة، وجاهروا بها، فدعا إلى جعل لغة المحبّة لغةَ الحياة، حتى تكون الحياة أرقى وأطهر وأصفى وأبقى... أن يحبّ الإنسان الّذين يلتقون معه ليؤكّد لغة التّواصل، وأن يحبّ الذين يختلفون معه ليؤكّد نقاط اللّقاء ويعمّق لغة الحوار.

أوّلاً: مظاهر المحبّة على مستوى الفكر:

1 ـ العلم:

يرى سماحة العلامة المرجع (قده)، أنّ (العلم) أهمّ منطلقٍ للمحبّة؛ لأنّ العلم يعطينا انطلاقة الأفق الرّحب، والفكر يعطينا امتداداً في العالم الأوسع. فالعلم يعلّمنا المحبّة، فهو العقل الّذي يحبّ فينتج الفكر، والقلب الّذي يحبّ فينتج العاطفة، والكيان الّذي يحبّ فينتج العدالة والإبداع.
فالمحبّة في فكر العلامة المرجع (قده) ليست حالةً شعوريّةً تنطلق من الإنسان، بل هي أمرٌ يشمل الكون كلّه؛ إنّ الله أحبّنا فخلقنا ورزقنا ورحمنا، أحبّنا ففتح لنا آفاق الدّنيا على الخير وعلى العدل، وفتح لنا آفاق الآخرة على أساس أن نعيش عنده ومعه.

إنّ العلم إذا خلا من (المحبّة)، فإنّ فيه قابليّةً للانتفاخ والاستئثار والغرور، وحينها يبدأ بإنكار أيّ حقيقةٍ لا يتوصّل إليها من خلال قنواته؛ "لذلك أن تكون مسلماً في وعيك، يعني أن تكون إنسان الله والعالم، من حيث إنّك إنسان العقل والقلب والرّوح والحركة والمسؤوليّة، في خطّ الرّسالة".

لذلك أطلق الله العلم كقيمةٍ هي سرّ القيم كلّها ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر:9]. وإذا كان الإيمان قيمة، وهو القيمة ﴿ أفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]. فإنه يمرّ بطريق العلم.
ولذلك، كان العلامة المرجع (قده) دائماً ما يؤكّد خطّ علم عليّ(ع) الّذي "عاش عقله، الّذي اتّسع لعلم رسول الله(ص) كلّه، الّذي قال فيه: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها". وحرّك ما أعطاه رسول الله من العلم في آفاقٍ جديدةٍ وإيحاءاتٍ جديدةٍ وتجارب جديدة، حيث قال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كلّ بابٍ ألف باب".

فلم يكن عليّ(ع) يحفظ علم رسول الله(ص) حفظ الكلمة، ولكنّه كان يحرّك علم رسول الله في كلّ ما استحدثه الناس من قضايا ومشاكل وتجارب، ولذلك كان يحدّق في المستقبل، من أجل أن يعطي هذا العلم حركيّته وامتداده ورحابته للمستقبل، لأنّه لم يجد أناساً يفهمون علمه في مرحلته، ولذلك أطلق علمه للأجيال القادمة، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "إن ها هنا لعلماً جمّا لو أصبت له حملة". ولم يصب له حملة، وكان علمه كلّه لله".

2 ـ المقاومة:

يؤكّد العلامة المرجع (قده)، أنّ "المحبّة لا تعيش الازدواجيّة بين الفكرة والتطبيق"، فقد تُخلق المحبّة من رحم الألم كما تُخلق من رحم السّعادة، ولذلك كان تأييده (قده) المطلق لحركة المقاومة منطلقه (المحبّة)؛ لأنها مقاومة انبنت على رفض اغتصاب الأرض والحياة، إنّها مقاومة لقهر الإرهاب؛ لأنّ المماثلة هي التي تعطي مسألة الحقّ مصداقيّةً هنا وهناك.. وهو ما بيّنه الأئمّة من أهل البيت(ع) في موضوع الحقّ وطالبه، ولا سيّما حين ضُرب أمير المؤمنين، فالمماثلة يجب أن تنطلق في الحقّ ومن أجل الحقّ.

وفي مداخلةٍ قدّمها إلى القمّة الإسلاميّة/المسيحيّة الّتي عقدت في العاصمة الإيطاليّة روما (رجب 1422هـ 10/2001م)، وجاءت بعنوانٍ مثير: "المقاومة هي المظهر الحيّ لحركة المحبّة الإنسانيّة.. والاحتلال هو أعلى مظاهر الإرهاب"، مؤكّداً فيها أنّ "علينا أن لا نخلط بين الإرهاب والمقاومة من أجل التّحرير؛ لأنّ قضيّة حرية الشّعب في تقرير مصيره ومقاومته للمحتلّ، تمثّل المظهر الحيّ لحركة المحبّة الإنسانيّة، بينما يمثّل الاحتلال مظهراً للحقد الإنسانيّ، باعتباره لوناً من ألوان الاستعباد الإنسانيّ في تعطيل إرادته عن القرار، ومحاصرة أوضاعه عن النموّ والإبداع".

وقد أكّد (رضوان الله عليه) أنّ "الفلسطينيّين إنسانيّون عندما ينطلقون في العمليّات الاستشهاديّة، لأنّ الاحتلال الإسرائيليّ قد صادر كلّ شي‏ءٍ منهم، وقتل كلّ عناصر الأمن عندهم، وإذا كان الصّراع بين الأمن الإسرائيليّ والأمن الفلسطينيّ، فإنّ الفلسطينيّين بقتالهم لا يستهدفون قتل المدنيّين، ولكن قتل الأمن الإسرائيلي".

3- بناء جسور المحبّة:

لقد حاول (قده) أن يؤسّس طريقاً للمحبّة من خلال بناء جسورٍ مبدؤها:

أ - الإيمان بالله؛ فالله ربّنا جميعاً.

ب - والإيمان بالرّسل الّذين أرسلهم الله بكلمته المقدّسة، لأنّهم حملوا ما يحبُّ الله لنا أن نعيشه كأخوّةٍ في الإنسانيّة، بأن نعيش إنسانيّتنا في إنسانيّة الإنسان في القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة.

ج - والالتقاء بالإله الواحد، وأن لا يكون لنا آلهة من الّذين يتكبَّرون على الإنسان ويعتبرون أنفسهم آلهةً للنّاس.

د – والتّحاور، حتى يقدّم كلّ واحد منّا فكره بوضوح للآخر؛ لأنّ بعض النّاس يحاولون أن يشوّهوا صورة دينٍ عند دينٍ آخر، وصورة مذهبٍ عند مذهبٍ آخر.

هـ - وأن نبدأ من السّلام الإنسانيّ والعدل الإنسانيّ بين يدي الله سبحانه وتعالى، ومن محبّتنا لله؛ لأنّنا إذا أحببنا الله أحببنا الإنسان، وإذا التقينا على الله فلن نختلف؛ لأنّ المشكلة التي يعيشها النّاس، هي أنهم ابتعدوا عن الله، وأصبحوا يعبدون المادّة ولا يعبدون الله.
ولقد سأله مراسل (واشنطن بوست): إذا التقيت بالرّئيس الأمريكيّ، فبماذا تنصحه؟
فأجابه (قده): "أقول له: عندما تستيقظ من النّوم، انظر إلى تمثال الحريّة، حتى تعرف أنّنا نحبّ الحرية كما يحبّها الشّعب الأمريكيّ، فلا تضغط على حريّة شعوب العالم".

4- رسالته في المحبّة:

لقد أطلّ علينا سماحة العلامة المرجع (رضوان الله تعالى عليه) برسالة الحبّ، فكان مؤمناً بأنّ الإسلام رسالةٌ للحياة والكون والإنسان، فأخرج الدّينَ من سجون العصبيّات الطّائفيّة والمذهبيّة والفئويّة، محذّراً من تأثيراتها السلبيّة على مجمل واقع الأمّة، تمزّقاً وتفريقاً وانقساماً، وطمعاً من العدوّ بخيراتها وطاقاتها وإمكاناتها.

فمن الخطأ أن نؤمن بأنّ محبّة الآخر تعني الاستحواذ عليه، إذ المحبّة تختلف في معناها عن التملّك؛ لأنها قيمة منفتحة على كلّ البشر. فالّذي يغار عليك ويبتغيك حكراً له، لا يمكنه أن يحبّك، بل يريد امتلاكك، ومن لديه محبّة لإنسانٍ أو لقضيّةٍ، يحرص على أن يشاركه جميع النّاس محبّته. ومن يردك لنفسه وحده، لا يمكنه أن يحبّك، بل هو في أعماقه يبتغي حرمانك من محبّة النّاس.

فالمحبّة الإنسانيّة أمر مؤصّل في الإسلام، قائم على مبدأ الأخوّة البشريّة، ففي الحديث : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه". إنّه يضيف قيمة الحبّ إلى قيمة الأخوّة؛ لأنّ الأخ هنا هو أخ في الإنسانيّة، كما فسّره غير واحد.

لقد أرادنا السيّد أن نعيش روحيّةَ القرآن كما عاشها في كلّ حياته وحركته، فعَشِقَ القرآنَ بقلبه وعقله وروحه... ولقد خاطبنا على الدّوام، بأنّ علينا أن نتربّى بالقرآن، وفي ضوء هذا المنهج القويم، لتكون مفاهيمُه مفاهيمَنا، وحركتُه حركتَنا في الحياة...

وأوصانا أن يظلّ رسولُ الله(ص) حاضراً في أذهاننا، كما عاش في ذهنه وفكره وعقله، معتبراً أنّ دور العالِم الدّيني، هو دور الرّسول عن الرّسول، ودور الدّاعية عن الدّاعية الأوّل، ودور الإنسان الذي يتحمّل مسؤوليّة الإسلام في حياته...

وأرشدنا إلى أن نظلّ مع عليّ (ع)، في ذوبانه في الله، وحبّه للإنسان، ونهجه الرّساليّ... وأن نظلّ مع الزّهراء(ع)، جدّته وقدوته التي وَجَدَ فيها إشراقةَ العقل وسرَّ النبوّة... فهي أمُّ أبيها.. وقدوةُ الرّجال والنّساء..

وهكذا أكّد سماحته أن نثبت على التزام نهج البقيّة من أئمّة أهل البيت(ع) الّذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيراً، فقيمتهم(ع) أنّهم انطلقوا بعيداً عن ذواتهم، فعاشوا الرّسالة كلَّها في فكرهم وإحساسهم وحركتهم وآمالهم، حتى كان كلُّ واحدٍ منهم قرآناً يتحرّك، ورسالةً تتجسّد.

ثانياً: مظاهر المحبّة على مستوى العمل:

1 - جمعية المبرات الخيرية:

لقد صدح العلامة المرجع في حفل خيريّ للمبرّات الخيريّة قائلاً:

"هذا عالمٌ لا بدّ لنا من أن نصنعه، لأنّ كلّ جيلٍ يصنَعُ عالَمه؛ أن نصنع الإنسان الذي يمكن أن يضيء ويتوهّج وينفتح ويسمو ويبدِع، حتى نشعر بأنّ إنسانيّتنا تنتج، تتحرّك، تتغيّر، تغيّر الواقع نحو الأفضل.. هذا عالمٌ لا بدّ لنا من أن نصنع فيه معنى القيمة، وأن نعيش رحابته، فلا نتقوقع في زاويةٍ هنا وزاويةٍ هناك، ولا نحرّك الحقد لينفتح على ما سمّيناه قداسة، حقد أتباع هذا الدّين على أتباع ذاك الدّين، أو حقد هذا الخطّ السياسيّ على الخطّ السياسيّ الآخر... هذا عالمٌ لا بدّ من أن نعيش رحابته، تماماً كرحابة الشّمس التي تطلع على البرِّ والفاجر، وكما هي رحابة الينبوع في عطائه عندما يتدفّق على الأرض الخصبة والجدبة، لا بدّ لنا من أن نفكّر، لأنّ كلّ هذا الضّجيج الّذي يفترس كلّ طهر الهدوء في عقولنا وفي قلوبنا وفي حياتنا، يمنعنا أن نفكّر، أن يكون فكرنا فكراً يعيش رحابة الحياة، ويخطّط لرحابة المستقبل".

لقد كان أكبر همّ سماحة العلامة المرجع (قده)، هو بناء طاقة الإنسان العقليّة والرّوحيّة والنّفسيّة، وهو لذلك يؤمن بأهميّة المؤسّسات كوسيلةٍ لتأمين حاجات المجتمع وبناء الأفراد وصناعة مستقبلهم.. ولذلك أكّد سماحته، ومنذ بداية عمله، أهميّة بناء المؤسّسة لا العمل الفرديّ، وآمن بأنّ المؤسّسات تبقى وتستمرّ، وهي قادرة على التطوّر، أمّا الأفراد فيزولون.. ومهما كبرت إمكاناتهم، فإنها تبقى محدودةً بحدود قدراتهم ونظرتهم إلى الأمور.. واعتبر أنّ المجتمع الذي لا يملك المؤسّسات، هو مجتمع لا يستطيع أن يحقّق حاجاته، ولن يقدر على مواجهة التحدّيات ولا الوصول إلى أهدافه..

ولذلك كان حرصه، ومن خلال موقعه الدّينيّ كمرجع، على الدّعوة إلى المرجعيّة المؤسّسة لا مرجعيّة الفرد الذي تزول كلّ مشاريعه بذهابه إلى ربّه، أو تتحوّل إلى إرثٍ شخصيّ، أو تفقد الأمّة كلّ النّتائج التي حصل عليها من خلال كونه في أعلى مواقع المسؤوليّة الدّينيّة..
ومنذ عهدٍ مبكرٍ، أنشأ العلامة المرجع (قده) في العام 1978 أولى مؤسسات جمعيّة المبرّات الخيريّة، "مبرّة الإمام الخوئي"، بعدما اشتقّ لها اسماً من "البرّ". وأعطيت الأولويّة لرعاية الأيتام وانتشالهم من واقع التشرّد والحرمان والضّياع. وتطوّر العمل من حضانةٍ اجتماعيّةٍ إلى رعايةٍ تربويٍّة ثقافيّةٍ شاملة، لتخريج إنسانٍ مؤهّلٍ فكريّاً وروحيّاً.

ونتيجةً لفداحة تأثيرات الحرب الأهليّة اللّبنانيّة في الواقع التّعليميّ والاجتماعيّ، توجّه الاهتمام لرعاية الفئات الخاصّة وتربيتهم ، من خلال مؤسّسة الهادي بمدارسها الثّلاث: "النور للمكفوفين"، "الرّجاء للصّم"، و"البيان للاضطرابات اللّغوية"، لتفتح لهم أبواب العلم والعمل والمعرفة. وأردفتها بإنشاء مدارس نموذجيّة ومعاهد فنيّة وتقنيّة، لتأمين التّعليم بمستوى راقٍ، مع الاهتمام بإنشاء مراكز إعداد المعلّمين والمعلّمات، بما يحقّق الاكتفاء الذاتي في الأداء التّربويّ في مسيرة الجمعيّة.

ولذا أنشأ سماحة العلامة المرجع (قده):

31 مركزاً ثقافيّاً ودينيّاً.
14 مدرسةً وثانويّةً.
6 معاهد مهنيّة.
6 مؤسّسات رعائيّة.
4 مراكز لذوي الاحتياجات الخاصّة.
4 مراكز صحيّة.
وكان المجموع: 65 مركزاً ومعهداً ومؤسّسة.

وتضمّ جمعيّة المبرات الخيرية أكثر من (خمسة عشر ألف) تلميذٍ في مدارسها ومؤسّساتها المنتشرة من الشّمال إلى الجنوب.

وحريّ بي أن أنقل إليكم صورةً حيّة: ففي حفل إفطار جمعيّة المبرات الخيريّة السّنويّ: "بعد تلاوة عطرة من القرآن الكريم، ألقى الكفيف يوسف دحنون، من مؤسّسة الهادي للإعاقة السّمعية والبصريّة، كلمةً تحدّث فيها عن معاناة المكفوفين في لبنان، وسعيهم لنيل أعلى مراتب الدّراسة، مشيراً إلى مشاركته في برنامج "من سيربح المليون"، وفوزه بـ125 ألف ريال سعودي، مؤكّداً أنّ الكفيف يمكنه أن يتدرّج في سلّم العلم والعطاء، شرط أن يتحمّل المجتمع مسؤوليّته تجاه المكفوفين والمحتاجين".

لقد ساهمت تلك المؤسّسات الرّائدة بتأمين البيئة التي تضمن تنمية هذه الطاقات واستمرارها بفعاليّة وتطوّر دائمين، وبذلك ناضل العلامة المرجع (قده) في مواجهة التحدّيات، ليساهم في تعزيز حضور الإنسان؛ كما المقاومة للعدوّ، كذلك مقاومة التخلّف والضّعف والجهل والفقر والحرمان.

2 - مع الناس في المسجد والحجّ:

يقول العلامة المرجع (قده): "من الطّبيعيّ أنّ المرجعيّة مسؤولة عن أن تكون في موقع النّيابة عن الإمامة، وعندما ندرس حياة الأئمّة(ع)، فإنّنا نرى أنّ الأئمّة(ع) كانوا يعيشون مع الناس في كل طبقاتهم، وكانوا يعلِّمونهم في كلّ ما يحتاجون إليه، وكانوا ينفتحون عليهم بشكلٍ لا يشعرون بأي حاجز بينهم وبين الأئمّة، حتى إنّ البعض يصف الإمام الصّادق(ع) بقوله: "لقد رأيته والنّاس مجتمعون حوله كأنه معلّم صبيان". لقد كان(ع) يفتح قلبه لكلّ النّاس... فمسؤوليّة المرجعيّة؛ أن تعيش مع النّاس، وتفسح لهم في المجال ليسألوها، وأن تعلّمهم، وأن تبادرهم، بحيث إذا سألوها تجيب، وإذا لم يسألوها تبتدئهم، وخصوصاً في هذا الظّرف الذي اختلفت فيه التيّارات المعادية للإسلام وتطوّرت، بحيث أصبح ضرورياً أن تنـزل المرجعيّة إلى الشّارع".

ومن هذا المنطلق، اختار سماحة السيد (قده) بفرادة قلَّ نظيرها، أن يبقى إلى جانب النّاس، يرافقهم في صلواتهم وصيامهم وحجّهم، ويتقرّب إليهم كما يتقرّبون إليه، ويحشر نفسه معهم كما حشروا أنفسهم معه، تصديقاً لقوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.. [الكهف: 28]، وانفتح سماحته على الإنسان كلّه في كلّ مشاكله العقديّة والفكريّة، ونظر إلى قضايا المسلمين بلحاظ البعد السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، ونظر ـ أيضاً ـ إلى حركة المسلمين في العالم بلحاظ الظّروف كافّةً، وصرّح بأننا لا نعيش في مجتمعاتٍ جامدةٍ نستطيع أن نسقط أفكارنا عليها إسقاطاً من فوق، بل لا بدّ من السّعي إلى نيل تعاطف الإنسانيّة مع ديننا وقضايانا المحقّة والعادلة والإنسانيّة. وانطلاقاًَ من هذه الخلفيّة، تحدّث عن قضايا المسلمين الكبرى، كقضيّة القدس والقضيّة الفلسطينيّة عموماً، وسائر قضايا المسلمين في ما يتعلّق بحرّيتهم وعزّتهم وكرامتهم.

وقد ساهم سماحة العلامة المرجع ـ منذ عقود ـ في تشكيل الخطاب الإسلاميّ الشّيعيّ الحديث؛ بل استطاع أن يدخل الكثير من العناوين والمفاهيم والمفردات إلى ساحة الحركة الإسلاميّة، ولعلّ سماحته أوّل من استخدم مصطلحاتٍ من قبيل الحركة الإسلاميّة ـ السّاحة الإسلاميّة ـ الإسلام الحركيّ ـ الأخلاق الإسلاميّة المتحرّكة ـ الإسلام العالميّ ـ دولة الإنسان... إلخ.

وكان (رضوان الله عليه) نصيراً عنيداً للمرأة في انتزاع حقوقها من مغيّبيها، وخصوصاً في المجتمعات التّقليديّة التي تظلم المرأة وتهمّش دورها الاجتماعيّ والإنسانيّ على الدّوام.

إنّه قطب عظيم، لـم ينبض مشرقنا الإسلاميّ بمثيلٍ له منذ عهدٍ طويل. ولقد حمل هذا المشروع التنويريّ على عاتقه، غير آبهٍ بكلِّ السّهام التي توجّهت إليه من الأقربين والأبعدين، مردّداً قول رسول الله (ص): "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي".

فهو يرى أنّ الفقاهة القائدة لمجتمع إسلاميّ، لا بدّ من أن تملك الوعي للإسلام فكراً وشريعةً ومنهجاً، ولا بدّ من أن تملك تقوى الإسلام حركةً وانفتاحاً على النّاس، وأنّ قيادة المجتهد العادل لا بدّ من أن تملك وعي الواقع، وأن يكون العارف في أهل زمانه، لأنّ غير الفقيه، إذا كان في موقع القيادة، فإنّه قد يحكم بغير الإسلام باسم الإسلام، وقد يعطي القداسة لمزاجه ولانحرافه.

لقد انطلق (قده) في اجتهاده ليواجه الواقع؛ كان يريد أن يكون المجتهد الّذي يقف ليتحمّل أخطار السّاحة، وليواجه تحدّيات السّاحة واتهاماتها وسُبابها وكلّ الكلمات، لأنّ الإنسان الذي يريد أن يكون رجل السّاحة، لا بدّ من أن يتحمّل كلّ تحدّياتها وكلّ سلبيّاتها.

فهو الفقيه الإنسان الّذي أتعب الرّاحة ولم يمهلها؛ انطلاقاً من مستنده الفقهيّ (قاعدة المسؤوليّة)؛ حيث يقول(قده): "فأنا عندما أتحسَّس أنّني أستطيع أن أخدم الإسلام أكثر، وأنّ الإسلام بحاجةٍ إلى ما أملكه من طاقاتٍ أكثر، وأنّ الناس بحاجةٍ إلى أن أحرّك تجربتي في حياتهم أكثر، فإنّني أشعر بأنّ مسؤوليّتي تمنعني من أن أعيش حالة فراغ، أو أن أعيش حالة راحةٍ لاهيةٍ عابثة. لذلك فأنا أعيش كإنسانٍ شاعرٍ يحبُّ الجمال، ويحبّ الطّبيعة ويحبّ الحياة.. لكنّي لم أعش في كلِّ حياتي هذا الاسترخاء في الطّبيعة أو الاسترخاء أمام حالات اللّهو والعبث في الحياة، قد يكون ذلك مزاجاً، ولكنّه في الوقت نفسه، يمثّل كلّ أسلوب حياتي، فأنا قد لا أجد الوقت الّذي أفرغُ فيه لنفسي أو لأهلي حتى الآن، وأنا في الطّريق إلى السّبعين".

نعم، لا زال صدى تلك الكلمة: "الراحة عليَّ حرام"، تتردّد في مسامع من حوله، تستفهم عن سرّ هذه الطّاقة في جسدٍ تمرّد على السّبعين!! ولقد قالها الإمام الصّادق(ع): "ما ضعف بدنٌ عمّا قويت عليه النيّة".

ورحم الله الصّافي النّجفي وهو يقول:

عمري إلى السّبعين يركض مسرعاً ** والرّوح باقية على العشرين

وهو الفقيه الإنسان الّذي لم يحمل في قلبه حقداً على أحد، مع كلّ الأجواء الحاقدة عليه، وفي هذا التّجربة المريرة يقول: "لقد تعلَّمت من رسول الله(ص) ذلك، عندما قرأت سيرته، ورأيتُ أنّه كان مفتوح القلب لكلّ النّاس، وأنّه كان يقول: "اللّهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".

وتعلّمت ذلك من عليّ(ع) عندما كان يقول: "احصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك".

إنّني أتألّم مما يتحرّك به هؤلاء، ولا أدّعي لنفسي أني أبتعد عن الأحاسيس والمشاعر، فقد كان رسول الله(ص) كما حدّثنا الله تعالى عنه، يحزن، وكان يعيش الضّيق مما يمكرون، لذا قال الله له: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النّمل: 70]، لكنّي أحاول دائماً أن أدرس نقاط الضّعف التي فرضت عليهم ذلك.. كنت أدرس التخلّف الذي يعيشون فيه، والجهل الذي يعيشون فيه، والذاتيّات التي يدورون في فلكها، ولذلك كنتُ أشفِقُ عليهم من أنفسهم أكثر مما أشفق على نفسي منهم. إنّني أؤمن بحقيقةٍ، وهي أنّ عليك أن تحبّ الّذين يخاصمونك لتهديهم، وتحبّ الّذين يوافقونك لتتعاون معهم. إنّ الحياة لا تتحمّل الحقد.. الحقد موت والمحبّة حياة، وأنا أريد أن أحيا ولا أريد أن أموت".

أيّها الأحبّة ..
إنّ المحبّة هي أساس المجتمع، وبدون المحبّة ليست هنالك أمومة ولا أبوّة ولا عائلة ولا أخوّة ولا صداقة ولا جماعات ولا أحزاب ولا حياة اجتماعّية.

ولقد استطاع العلامة المرجع (قده) أن يقلب فكرة معادلة (البقاء للأقوى)، والّتي تبتغي تحويل الإنسان إلى كائنٍ آليّ لا تحرّكه غير الحسابات والمصالح الجامدة، وأراد أن يذكّرنا بقانون الحياة الّتي خلقنا الله من أجلها: (البقاء للأكثر محبّة).

إنّ خسارتنا برحيله لا تعوّض، وإنها لثلمة كبيرة انفتقت عن جرحٍ عميقٍ أرجو من الله تعالى أن يعوّضها بمثله، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

سيّدي..
إنّ فكرك لن يصبح موتاً، بل هو تتمّة..
فهو لهب لا ينطفئ أبداً.

القديح: موكب أهل البيت يقيم حفلا تابينيا في أربعينية المرجع السيد فضل الله



أقامت ديوانية موكب أهل البيت عليهم السلام بالقديح بمحافظة القطيف مساء يوم الخميس «ليلة الجمعة» - 16 رمضان / 26 أغسطس، محفلا تأبينيا في ذكرى مرور أربعين يوم على رحيل المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله.

وقد أبتدىء الحفل بتلاوة القرآن الكريم للمقرئ عبد الله القلاف، ثم كلمة الحفل للشيخ محمد آل عمير ، ثم قصيدة شعرية للشاعر حبيب المعاتيق وأخرى للشاعر هادي مغيص.

وفي ختام الحفل تمت قرآءة مجلس حسيني من وحي المناسبة .

قريباً على «شبكة الفجر».. خفايا وتفاصيل تكشف لأول مرة عن مسيرة الراحل

كشف مفكر عراقي كان مقرباً من آية الله العظمى الامام السيد محمد حسين فضل الله الكثير من الخفايا والتفاصيل في مسيرة الراحل خصوصاً فيما يتعلق بحملة التسقيط التي تعرض لها في بداية تصديه للمرجعية الدينية.

وتحدث عن علاقة خاصة تربط الامام الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية في إيران بالعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله .

وأضاف بأن مرجعاً دينيا كبير جاء من مدينة قم المقدسة إلى منزل السيد فضل الله في حي السيدة زينب عليها السلام في دمشق ليخبره بأن الحملة التي انطلقت ضده لم يكن منشأها ديني أو علمي بل لسبب آخر.

وقال هذا الكاتب والباحث أن رسائل مجهوله عديدة كانت تصل إلى المرجع الراحل تطلب منه العذر والصفح والعفو نتيجة إنخراطهم في الحمله التي تعرض لها .

وحول بعض الآراء والأفكار التي تميز بها الراحل قال أن هناك إستفتاء للمرجع الأعلى للطائفة آنذاك السيد محسن الحكيم بخصوص مسألة إستخدام الحسابات الفلكية الدقيقة كبديل عن الرؤية لهلال شهر رمضان المبارك .

وقال بأن أحد علماء الطائفة المعروفين قبل خمسين عاماً قد كان له رأي جريء في قضية كسر ضلع الزهراء عليها السلام وقد دون هذا الرأي في أحد كتبه المتوفره الآن ولم يرميه أحد بالضلال والانحراف .

وقال بأن أحد الفقهاء المتميزين - وهو مرجع ديني في النجف الأشرف - قد عكف بعد الحملة التي طالت الراحل بمراجعة آراءه وأفكاره ليستخلص إلى نتيجة مفادها بأنها سليمة وليست جديدة ، وأن هناك علماء قد سبقوا السيد في طرحها.

وحول علاقة المرجع الراحل بمن أثاروا الغوغاء ضده قال بأن السيد كان يردد دائما هذه العبارة "اللهم إهدي قومي فإنهم لايعلمون" ورغم معاناته من بعض المقربين الذين أنقلبوا ضده فإنه لم يكن يحمل في قلبه تجاههم إلا الحب .

وتحدث عن قضايا ومواضيع اخرى ربما تكشف لأول مرة ضمن مسيرة المرجع الديني الراحل آية الله العظمى الامام السيد محمد حسين فضل الله .

«شبكة الفجر الثقافية» سوف تنشر لاحقاً الموضوع كاملاً مع مقاطع فيديو حصلت عليها لحديث هذا المفكر .

مشروع ضخم لموسوعة أكاديمية ومؤسسة تعنى بحفظ تراث المقدس فضل الله



علمت « شبكة الفجر الثقافية » أن العمل يجري حالياً على مشروع ضخم يشارك فيه عدد كبير من مفكرين ومثقفين وأساتذة جامعيين وعلماء دين لإنشاء " موسوعة أكاديمية " في جميع المجالات الفكرية و الفقهية و الاجتماعية التي ساهم بها المرجع الامام السيد محمد حسين فضل الله (رض) في إثراء الواقع الإسلامي.

وستكون هذه الموسوعة وفقاً للاعتبارات الاكاديمية و العلمية.

كما أن العمل يجري ايضاً من أجل إنشاء مؤسسة تعنى بحفظ آثار وتراث المرجع الراحل ، وذلك على مستوى الكتب و المحاضرات و المقالات و التصريحات وستكون على المستوى السمعي البصري و الصور الفوتوغرافية.

وكانت مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر في لبنان , قد أصدرت العدد الخاص من مجلة المقتطف الإسلامي بمناسبة رحيل المقدس فضل الله على أن يتبعه عدد آخر ، كما صدر مؤخراً عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي وفي إطار سلسلة "أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي" كتاب جديد تحت عنوان: محمد حسين فضل الله: " العقلانية والحوار من أجل التغيير" وقد تضمن مجموعة من الدراسات الهامة لعدد من الباحثين والمختصين .

كذلك أصدرت شبكة البشائر الإسلامية في الكويت إصدارات خاصة لذات المناسبة .

وكانت بعض المؤسسات والفعاليات الثقافية في العراق وسوريا وإيران والبحرين والعديد من بلدان الاغتراب في أوربا والأمريكيتين وجنوب افريقيا واستراليا قد أصدرت عدداً من المنشورات المتعلقة بمناسبة رحيل العلامة المرجع رضوان الله عليه .

26 أغسطس 2010

على ضفاف الوداع لشهر الله

نقترب شيئاً فشيئاً من وداع شهر الله، والنفس لا تزال حيرى في الطريق الذي تسلك، وفي الزاد الذي تحمل، وفي الخطوات التي تخطو.. وليست تدري موقعها من الله؛ هل اقتربت إليه أكثر، أمّ أنّها لا تزال تبتعد عنه كلّما اقترب العمر من نهايته!
هكذا هي الأيّام، تأتيك بشارتها وهي قادمة إليك، فتشمّر ساعدك للعمل، وإذا بك تقف في منتصف الزمن، وقد مضى بسرعة، آخذاً معه الكثير من الفرص السانحة لغسل القلوب الصدئة بماء المناجاة، وتطهير النفوس في محراب الصلاة، وتأصيل الفكر بآيات الكتاب، وتخفيف الهموم بطول السجود..
وهكذا بدأنا نقترب من ليلة القدر التي أخفى الله زمانها عنّا، إغراءً لنا بالتعويض عمّا فات، والتزوّد من لحظاتها الروحيّة المكثّفة، وقد يمّمنا وجوهنا نحو محراب اللازمان، حيث تحلّق الروح إلى أبعد من هذا الكون، لتلتحم بجزيئات النور الذي ينعكس على بحيرة العشق الإلهيّ، في مزيجٍ من غيبوبة الحسّ عن بهرجة الدنيا وزخارفها، ومن حسّ الغيب في قلب مادّيتنا في السير نحو الله، محور الكون والوجود، وميزان الفكر، ونبض المشاعر والأحاسيس..
هي فُرصة آتية قد تعوَّض أبداً، ودونها مسار أعمارنا المستقبليّ، وتثبيت مواقع الخطى في قلب التحدّيات التي تؤجّجها شياطين الجنّ والإنس..
وتنعطف بي الذكرى إلى صوت ليلة القدر، ترنّم معه في المسجد جدرانُه، وتترنّح مآذنه، ويبسط معه المحراب يديه إلى السماء، وتفتح القبّة المظلّلة رؤوس الداعين والمصلّين نوافذها على الملأ الأعلى الذين تتعانق أرواحهم وهم يستمعون إلى الذي تروّح في عمق إنسانيّته، يدعو حتّى يختفي في غيابات العشق للمعبود وحدَه لا شريك له..
تحنّ آذاننا والقلوب إليك وصوتُك مع كلّ فقرة من دعاء «أبي حمزة»، ومع كلّ جملة من دعاء «التوبة»، وكأنّك أنت الدعاء يا من حياتُك كلّها كانت دعاءً يترافق صداه في مدى الأجيال الآتية..
افتقدك شهر رمضان، وأنت حرّكت فيه الزمن حتّى لم يقوَ على اللحاق بك، وتفتقدك النفوس التي كنتَ دليلها إلى الله، في ليلة القدر..
ولكنّها النفوس التي صُغتَ توحيدها بأصالة فكرك النابع «من وحي القرآن»، وبأنس المحبّة لله التي تحلّق في «آفاق الروح»، هي النفوس التي تلتقيك عندما تتلو القرآن في خطوط الحياة، وعندما تخشع في المناجاة بين يدي الله، وعندما تسمو بالخُلُق النبويّ بين الناس..
ولكنّك اليوم وقد امتلأت بكلماتك مسامعُ الزمن، تدعو إلى الله بعيداً عن أيّ ذاتيّة، وتخطّط للمسيرة تحمل شعلتها الأجيال التي لم تفهمك إلا قليلاً، حاضرٌ في العقل فكراً، وفي القلب شعوراً رساليّاً، وفي الواقع حركةً وجهاداً في سبيل الله..
ظنّنا أنّك قد بلغتَ الشوط ـ سيّدي، ويحلو لي أن أناديك: أبي ـ وقد نظمتَ شعراً شعارَ حياتك:
إنّما الغاية أن نبلغ في الشوط رضاهُ


السيد جعفر محمد حسين فضل الله

23 أغسطس 2010

«جمعية المبرات الخيرية»
في مرحلة ما بعد غياب مؤسسها




تعنى بالرضع والأحداث والمتسربات والأطفال العاملين والأميين



عندما بنى المرجع الكبير السيد محمد حسين فضل الله المؤسسات التي ترعى اليتيم والمعوق والفقير، اختار لادارتها أشخاصاً مؤتمنين، ووضع لها قوانين تحميها من الاستئثار الشخصي والعائلي، وأرسى لها قواعد وأسسا معينة، تؤمن لها عناصر البقاء والديمومة.
وعندما مضى في رحلته الطويلة، كان مطمئناً إلى مصير الأمانة التي أودعها القيمين على «جمعية المبرّات الخيرية»، وفي مقدمهم رئيسها ورئيس «مؤسسات السيد فضل الله» نجله السيد علي فضل الله.
جهد «السيد» مذ انطلاقة اللبنة الأساسية للجمعية في العام 1978، على تطويرها وتوسيع نطاقها ومجالاتها، فولدت السنبلة سنابل كثيرة، وامتد خيرها ليطال الكثير من المحتاجين في لبنان، بمعزل عن الدين أو الطائفة.
كان الرجل المثقل بالاهتمامات المتشعبة بين الفقه والشريعة والفلسفة ومراجعات الناس، «يسرق» الوقت ليتابع شؤون المؤسسات وشجونها. وكان يزورها من وقت إلى آخر، لتفقد العمل ميدانياً، وبث الروح المعنوية لدى المستفيدين من خدماتها. ولعل زيارته الأخيرة، قبل وفاته بأشهر قليلة، إلى «دار الأمان للمسنين» في بلدة العباسية، وعلى الرغم من مرضه وإرهاقه الشديدين، تعكس طبيعة العلاقة التي كانت تربطه بالجمعية وبالفئات التي تحتضنها.
ومن واكبه في الأيام الأخيرة التي قضاها في المستشفى، قبيل الرحيل، ينقل عنه سؤاله الملح عن الجمعية وأحوالها.
تدخل الجمعية راهناً مرحلة ما بعد غياب مؤسسها. ويحمل القيمون عليها مسؤولية كبيرة. وهي ترعى اليوم حوالى 3800 يتيم، وتضم في مدارسها الأكاديمية والمهنية 21 ألف و500 تلميذ، و450 تلميذاً من ذوي الإعاقات البصرية والسمعية والنطقية، وتدمج 350 تلميذاً من ذوي الاحتياجات الخاصة في مدارسها.
كل شيء يسير في الجمعية وفق نهج مؤسسها. يؤكد ذلك مديرها العام السيد محمد باقر فضل الله الذي يقول لـ«السفير»: «صحيح أن غيابه شكل صدمة غير عادية. لأنه كان الخيمة التي تظلل المؤسسات. وكنا نأخذ برأيه عند حصول تجاذبات أو مشكلات معينة. ولكننا سنتجاوز التحديات بقوة، لأنه لم يربنا كأتباع بل كرفقاء، متمثلاً بذلك بالرسول ومن معه. فلا أذكر يوماً انه فرض علينا رأيه، بل كان يحاورنا ليقنعنا، أو ليقتنع منا. وكان يحفز العاملين والقيادات دائما، ما ينعكس إيجاباً على سير العمل».
ويؤكد فضل الله أن «الراحل عيّن لجنة تضم عدداً من الأمناء، للإشراف على العمل داخل المؤسسات، من خلال النظم الموجودة، بما يضمن استمراريتها. وهو الذي أراد للجمعية أن تنطلق كرسالة حضارية، وليس كمؤسسة تقليدية، لتجسد الإسلام عبر حركة الواقع الاجتماعي ولترفع درجة الإنسان. كان يزرع فينا القوة، ويحثنا على نقل طاقاتنا إلى من يحتاجها».
ويلفت الى «اننا أنجزنا منذ ثلاث سنوات، كل آليات العمل التنظيمية في الجمعية، وقصدناه مع عشرات الملفات، وبعد اطلاعه عليها، اطمأن لسير العمل. كما أنه ارتاح أيضاً لوضع المؤسسات الإنتاجية في الجمعية، كـ«مطعم الساحة»، ومحطات «الأيتام»، كونها بدأت تعطي ثمارها لمؤسسات رعاية الأيتام، والمراكز التعليمية في المناطق المحرومة».
ويلفت فضل الله الى أن «الجمعية هي من أكثر المؤسسات المواكبة للعصر، من خلال انخراطها في «برنامج التطوير الإداري» منذ حوالى ست سنوات، لتدريب المديرين بصورة مستمرة».
ورداً على سؤال يقول ان «الأيتام كانوا نقطة ضعف «السيد». وإذا حدث وتعرض يتيم لانزعاج أو لإشكالية في المؤسسة الرعائية، كان يتابعها حتى مرحلة الحسم. كما كان يهتم كثيراً بالمؤسسات والمراكز قيد الإنجاز، لحين انطلاقها. وكان يناشدنا ألا نطلب تبرعات من أحد، مفضلاً دعوة الناس إلى زيارة المؤسسات، وعند ذاك يكون خيار المساهمة بيدهم».
ويضيف: «كان يفرح كثيراً بالتميز الذي تحرزه أي من المؤسسات، في مجال الشهادات الرسمية، والمسابقات الفنية. وكان ينقل ذلك لزواره، من مسؤولين وسفراء، ويدعوهم الى زيارة المؤسسات. وكان يشجعنا على الانفتاح على الآخرين، والاستفادة من تجاربهم. لذا، انفتحت الجمعية على المجتمع الدولي منذ الحرب الأهلية، كالمنظمات الدولية، والسفارات والمراكز الثقافية في العالم، ومنها «المركز الثقافي البريطاني» حيث استفادت مؤسسة «الهادي للإعاقة السمعية البصرية والنطقية» من تقنيات بريطانية، لتأسيس مدرسة «البيان لإعاقات النطق والتواصل»، منذ أكثر من سنتين».
استحداث حضانة
للرضع الايتام
تضم الجمعية تسع مبرّات للأيتام والمعوّقين، وثلاث مدارس لذوي الاحتياجات الخاصة، و15 مدرسة أكاديمية، وستة معاهد مهنية وفنية، وأربعة مراكز صحية واستشفائية، و40 مركزاً ثقافياً ودينياً، ومركزا للتشخيص التربوي، ودارا للمعلمين والمعلمات، ودارا للمسنين.
وفي العام الماضي، افتتحت الجمعية حضانة «دار الفرح»، في «مبرّة السيدة خديجة الكبرى». وتضمّ مجموعة من الرضّع الأيتام والحالات الاجتماعية الصعبة، من عمر يوم حتى ثلاث سنوات.
ومن البرامج التي تعتمدها الجمعية: «برنامج الرعاية المتكاملة لتنمية القدرات» لدى الأحداث (أطفال معرّضون لخطر الانحراف) في مبرة الإمام الخوئي، لتصويب مساراتهم، وتأمين الاستلحاق المدرسي ودورات التوجيه المهني والمتابعة العائلية تسهيلاً للاندماج الاجتماعي.
كما تعتمد برامج خاصة بالتلاميذ المغتربين العائدين الى وطنهم، عبر دمجهم في صفوفها، وإكسابهم اللغة الأم، وبرامج خاصة بالمتفوقين، بالإضافة الى برنامج «إعادة المتسربات إلى التعليم النظامي»، تحت شعار «لا للإقصاء، لا للتهميش، كل فتاة لها الحق في التعلم». ومن المتوقع تعميمه ليشمل الفتيان أيضاً.
ومن البرامج أيضاً برنامج «توظيف ذوي الحاجات الخاصة»، الذين يتخرجون من الجامعات والمهنيات ولا يجدون وظائف. ويكون ذلك من خلال افتتاح مكتب للتوظيف في «مؤسسة الهادي للإعاقة السمعية والبصرية والنطقية» في إطار مشروع «فرصة». ويشكل المشروع صلة وصل بين المتخرجين والمؤسسات الإنتاجية. أضف الى ذلك برنامج تدريب المكفوفين على استخدام تكنولوجيا المعلومات: بطريقة «برايل»، لإعدادهم لميادين عمل تتعلق بتكنولوجيا الكمبيوتر، وصولاً إلى إقامة مركز توثيق إلكتروني، لتصفـّح الإنترنت عبر أجهزة «البرايل» والبرامج الناطقة.
كما تنفرد الجمعية ببرنامج «التدريب المهني المعجل للأطفال العاملين»، الذين لم يكملوا تعليمهم الأساسي، ويعملون في الورش المتنوعة، الى جانب برنامج محو الأمية، وتأمين معلمين لشرائح مختلفة منهم، من دون أي مقابل. ويبقى برنامج «تمكين أمهات الأيتام» اللواتي يمتلكن خبرات مهنية يمكن الاستفادة منها لزيادة مدخولهن.

فاتن قبيسي

للتبرّع، يرجي الاتصال على أحد الرقمين:
01822221، و03210316