1 يوليو 2008


السيد فضل الله ل"وفد طلابي غربي متعدد الجنسيات":

نحن نؤمن بحوار الحضارات وتلاقحها لا صدامها، لأن الصدام يمثل العنف، والفكر لا عنف فيه

الحوار مع أمريكا إدارةً وشعباً، وطبيعة النظام الذي يحفظ للّبنانيين مواطنيتهم، ونظرية ولاية الفقيه، والخلفية المذهبية للعنف في العراق... عناوين تناولها وفد طلابي أجنبي متعدّد الجنسيات في حواره مع سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله...
وهذا نصّ الحوار:

السيد: بدايةً أحبُّ أن أرحِّب بكم جميعاً، باعتباركم طلاب معرفة تحصلون من خلالها على الحقيقة في القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية، وأنا أعتقد أنَّ المعرفة الإنسانية ليست تابعةً لدين معيّن أو لسياسة معينة أو لجغرافيا معينة، بل هي سرُّ الإنسان فيما يملك من عقل يفكِّر، ومن تجربة تتحرك في إعطاء الفكرة في الواقع.
ولذلك، فإني أعتقد أنَّ المعرفة يمكن أن توحِّد الإنسان كلّه، حتى لو اختلفت خطوطُها فيما يؤمن به هذا الإنسان ولا يؤمن به الآخر، لأنّ اختلاف وجهات النظر ينبغي أن لا يؤدِّي إلى التصادم، بل إلى الحوار، وذلك بأن يطرح كلُّ فريق وجهة نظره ليقابله الفريق الآخر بوجهة نظره، ليدرسا مواقع اللقاء ومواقع الاختلاف، لأنّ الحوار إذا لم يؤدِّ إلى رؤية فكرية موحَّدة، فإنّه، على الأقلّ، يؤدي إلى التفاهم بين الّذين يختلفون في الفكر. ونحن نعتقد أنّ من الخطأ أن نتحدث عن صدام الحضارات، بل إنّنا نتحدث عن تلاقح الحضارات، لأنّ كل حضارة تتأثر بالأخرى، ونتحدّث عن حوار الحضارات، لأنّ كل حضارة تنفتح على ما عند الحضارة الأخرى، فالصدام يمثِّل حالة عنف، والفكر لا عنف فيه، وإنّما هو انفتاح العقل على العقل، وانفتاح الإنسان على الإنسان بالطريقة التي يحاول فيها أن يفهم الإنسان الآخر.
ولذلك نحن ندعو إلى الحوار بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، لأنّهما تلتقيان في الكثير من القيم الإنسانية، وإنّ كانت فلسفة إحداهما تختلف في بعض جوانبها عن الفلسفة الأخرى. ونحن نعتقد أنّه ليست لدينا مشكلة مع الغرب الإنسان، وإنّما المشكلة مع الغرب الذي يتحرّك في طريق اضطهاد الإنسان من خلال الإدارات الغربية لا من خلال الإنسان الغربي، كما أنّ المشكلة في الشرق هي مشكلة الإنسان، فالإنسان فيه هو إنسان تسالمي تعايشي تصالحي، والمشكلة أيضاً هي في بعض هؤلاء الذين يؤمنون بالعنف ضدّ الإنسان، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، ما يجعل بعض الناس في الغرب يحكم على الشرق أو على الإسلام من خلال بعض الإرهابيين والمتطرفين الذين يؤمنون بالعنف، وقد يحكم أيضاً بعض الشرقيين على الغرب من خلال الاستعمار ومن خلال حالات العنف الّتي تنطلق بها الدول، ولكن هؤلاء لا يمثلون الغرب كلّه، وأولئك لا يمثلون الإسلام كلّه.
إنّ القرآن الكريم يعلِّمنا كيف نعالج مسائل الاختلاف مع الآخر، بأن نختار الوسائل التي تحوّل أعداءنا إلى أصدقاء، وأن ندخل في الحوار مع الآخر الذي نختلف معه، بالطريقة الإنسانية الحضارية، سواء بالكلمة أو بالأسلوب.
ونحن نرحّب بكم، لأنّنا نريد من الغرب أن يفهمنا جيداً بحقائقنا الثقافية الدينية، ونريد بدورنا أن نفهم الغرب بشكل مباشر بحقائقه الثقافية الدينية الحضارية، وكما نريدُ لكم أن تكونوا رسل ثقافة المحبة وثقافة الحياة، نريد للمسلمين أيضاً أن يكونوا رسل الثقافة والحياة، ولا نريد أبداً أن نكون رسل ثقافة الموت.
إنّ تحية الإسلام هي السلام (السّلام عليكم)، وقد بادرتمونا بها، وفي التراث الديني الإسلامي، أنّ تحية أهل الجنة هي السلام، فالله تعالى يقول: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ{(إبراهيم:23)، فالسلام هو الذي ينبغي أن يحكم كل علاقة الإنسان بالإنسان؛ السلام القائم على أساس العدل، بأن نعطي لكل إنسان حقَّه، ولكلِّ شعب حقه، وأن لا يضطهد شعب شعباً آخر، ولا يصادر شعب شعباً آخر. إنّ معنى "السلام عليكم"، هي أنك تقول للآخر عندما تلتقي به، إنّ علاقتي بك هي علاقة سلام وليست علاقة حرب، فأنا إنسان وأنت إنسان، فلنعش السلام بيننا ونتحرّك به نحو العالم. وعلى هذا الأساس، نحن نرحِّب بكم ونقول لكم: السلام عليكم؛ سلام الثقافة الحرّة والحوار الحرّ، وأنا أؤمن بالحرية، فخذوا حريتكم في أيّ سؤال.

س: سماحة السيد، لقد قمت بزيارتكم قبل سنتين في منـزلكم الّذي كان قائماً بالقرب من هنا، والذي دمَّرته إسرائيل بالأسلحة الأمريكية، وكان هذا المنـزل واحداً من منازل عديدة دمِّرت في هذه المنطقة، وقد قلت لي وقتها إنّكم مستعدون للحوار مع الرسميين الأمريكيين دون أيّ اعتذار، والآن بعد سنتين أطرح عليكم السؤال نفسه: هل من الممكن إقامة حوار مع الولايات المتحدة، خصوصاً مع وجود عدم توازن في العلاقات وفي ميزان القوى؟

ج: إنني أؤمن بالحوار مع كلِّ الناس حتى الذين يحملون فكراً مضادّاً لما أفكر فيه، وحتى الذين يمارسون بعض الأعمال السياسية والأمنية التي تواجه أوضاعنا الأمنية والسياسية، ولكن المشكلة أنّ الإدارة الأمريكية الحالية ليست إدارة حوار، بل هي إدارة عنف. ولذلك لاحظنا أنّها عندما قامت باحتلال العراق، لم تنطلق من حقيقة واقعية في اتهام العراق بأسلحة الدمار الشامل، باعتراف الرئيس الأمريكي وباعتراف الاستخبارات الأمريكية، وإنّما أرادت أن تحتلَّ العراق بدون الرجوع إلى الأمم المتحدة، كما أنّها عندما احتلَّت أفغانستان بحجة أحداث 11 أيلول، فإنّ الشعب الأفغاني لم يكن مسؤولاً عن أحداث 11 أيلول، وإن كان بعض أفراده مسؤولين، ولكنّها احتلَّت البلد كلّه، وما يزال الشعب الأفغاني يعاني ويلات هذا الاحتلال.
إنّ مشكلة الإدارة الأمريكية الحالية أنّها لا تؤمن بالحرية للشعوب، ولذلك فإنها تشرّع الاحتلال لنفسها، ثم تشرّع احتلال الدولة اليهودية للشعب الفلسطيني أيضاً، وهي تعتبر أنّ كلّ المجازر التي تقوم بها إسرائيل ضدّ أطفال الفلسطينيين ونسائهم وشيوخهم، والحصار الذي تحاصر به غزّة، دفاعاً عن النفس، بينما تعتبر قيام الفلسطينيين بمواجهة الجنود الإسرائيليين إرهاباً، مع أن الفلسطينيين يطالبون بتحرير بلدهم من الاحتلال الإسرائيلي.
لقد كان الشرق في الأربعينات يحبُّ أمريكا من خلال مبادىء ويلسون، وكان يتمنى أن تأتي أمريكا إلى الشرق، لأنّه عانى من أوروبا البريطانية والفرنسية الكثير، ولكن الآن أصبح أغلب العالم يكره أمريكا؛ يكره إدارتها وليس شعبها، هذه الإدارة التي يسيطر عليها المحافظون الجدد الذين يؤمنون بالحرب على المنطقة، واللوبي اليهودي الذي يحاول أن يثير أمريكا ضدّ العالم العربي. نحن على استعداد لنحاور الشعب الأمريكي في مراكزه الثقافية ومراكزه العلمية والتربوية وحتى السياسية، لأنّنا نحب أن نكون أصدقاء الشعب الأمريكي الذي يتميَّز بالكثير من الصفات الإنسانية، ونحن نرجو أن تكون الإدارة الأمريكية الجديدة على خلاف الإدارة الأمريكية الحالية.

س: تكلَّمتم عن السياسيين في لبنان، وكيف يتقاسمون البلاد وفقاً للخطوط الطائفية، ولكن، في رأيكم، ما هي السياسة التي تدعم البلاد وتقويها وتمنع هذه الطائفية؟

ج: إنّني أعتقد أنَّ مشكلة لبنان هي النظام الطائفي الّذي حوّل لبنان إلى ولايات غير متّحدة، لأنّ كلَّ طائفة تحاول أن تأخذ القوّة في مواجهة الطائفة الأخرى من دون أن تشعر بالمواطنية اللبنانية التي تجمعها بها، ولذلك فإنّ السياسيين الطائفيين يحاولون أن يحصلوا على القوّة من خلال ارتباطهم بالقوى الخارجية، سواء كانت إقليميةً أو دوليةً. ونحن نتصوّر أنّ للولايات المتحدّة الأمريكية في إدارتها الحالية دوراً في ذلك، لأنّها تتدخّل، من خلال سفارتها ومن خلال مندوبيها، في القضايا الصغيرة والكبيرة في لبنان. وقد صرّحت الوزيرة رايس أن لبنان هو أفضل ساحة لمشروع الشرق الأوسط الكبير، كما صرّح الرئيس بوش بأنّ لبنان مرتبط بالأمن القومي الأمريكي. لذلك نحن ندعو إلى المواطنية، بأن يكون الفرد اللبناني لبنانياً، يحصل على حقوقه من خلال مواطنيته، لا من خلال انتمائه الطائفي والمذهبي، وأن يقوم بواجباته من خلال مواطنيته.


س: هل يعتقد سماحة السيد، أن لبنان قد يتحوّل إلى دولة علمانية في المستقبل؟

ج: لبنان هو دولة علمانية بالمعنى القانوني، فالقوانين التي تحكم اللبنانيين ليست قوانين دينية، ولكن النظام يقوم على أساس توزيع حصص الدولة بين الطوائف، ونحن نعتبر أن الطائفية ليست ديناً، بل هي حالة عشائرية قبلية عصبية، إن القانون اللبناني قانون علمانيّ وليس قانوناً دينياً.

س: سماحة السيد، ما رأيكم في ولاية الفقيه؟

ج: ولاية الفقيه هي نظرية من نظريات الفقه الإسلامي الاجتهادي، فهناك من الفقهاء من يرى أنّ رئيس الدولة الإسلامية لا بد من أن يكون مثقّفاً بالثقافة الإسلامية الفقهية، بحيث يستطيع أن يحكم الشعب بالإسلام نتيجة ثقافته، ومن الطبيعي أن يكون له مستشارون في كلِّ القضايا التي تتّصل بمسؤوليته في هذا المجال، ولذلك فإن ولاية الفقيه إنّما تنطلق في الدائرة التي يملك فيها الفقيه السلطة، كإيران مثلاً، ولكن ليس لولاية الفقيه أيُّ دور في لبنان أو في أيّ بلد مختلط لا يملك فيه الفقيه السيطرة العسكرية أو السيطرة الاقتصادية والاجتماعية، وهناك الكثير من الفقهاء بنسبة أكثر من سبعين أو ثمانين في المئة، لا يرون للفقيه تلك السلطة العامة على الدولة.

س: سماحتكم تكلَّمتم عن الفارق بين الشعوب والإدارات، عن الشعب الأمريكي بشكل خاص والإدارة الأمريكية، ولكنّ أعمال الإدارة الأمريكية قد يتبنّاها الشعب الأمريكي، وقد لا يكون مسؤولاً عنها، ولكن في الوقت نفسه، نحن نعرف أنَّ التصرفات في أيّ دولة، إذا كانت لا ترضي الشعب مثلاً، فإن الشعب يرفضها. ولذلك سؤالي دقيق بعض الشيء: كيف يمكنكم التمييز بين الشعب الأمريكي مثلاً وأعمال الإدارة الأمريكية التي تحصل في هذه المنطقة، والتي يسمح بها الشعب الأمريكي عبر المؤسسات الديمقراطية؟

ج: نحن عندما ندرس حركة المرشّحين، سواء من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي، نرى أن شعاراتهم تتركَّز بنسبة ثمانين في المئة على الجانب الداخلي في قضايا التنمية وتخفيف الضرائب وما إلى ذلك، ولكنّهم لا يتحدّثون عن القضايا العسكرية في العالم بالطريقة التي يقتنع بها الشعب الأمريكي، وإذا كان الشعب الأمريكي يتفاعل مع الإدارة في بعض الحالات، فلأنَّ الإدارة تحاول أن تكذب عليه، كما حدث في حرب العراق وأفغانستان، وقد رأينا كيف أنّ الشعب الأمريكي، وكثيراً من السياسيين الأمريكيين الكبار في مجلس الشيوخ، يقفون ضدّ سياسية الرئيس بوش. ونحن نلاحظ من خلال الإحصاءات واستطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، أنّ تأييد الشعب الأمريكي للرّئيس بوش قد انخفض إلى أقلّ مستوى. وهكذا رأينا، كيف أن الحزب الديمقراطي يقف ضدّ بقاء الجنود الأمريكيين في العراق، باعتبار أنَّ احتلال العراق ووجود الجنود الأمريكيين قد كلّف أمريكا الكثير من الخسائر المالية والبشرية، من الجنود الذين قتلوا أو جرحوا في العراق.
إنّ المشكلة هي أنّ الذين يسيطرون من خلف الستار على الانتخابات الأمريكية، هم الذين يموّلون من قبل الأحزاب من جهة، والشركات الاحتكارية التي لها مصالح في الشرق أو في غير الشرق من جهة أخرى.

س: سماحتكم مرجع ديني تتخطّى مرجعيّته الحدود الجغرافية والسياسية، ما رأيكم في العنف الذي يحصل في العراق، والكثير منه عنف شيعي ـ شيعي؟

ج: أنا أعتقد أنَّ المسألة في العراق ليست مسألةً شيعيةً ـ شيعيةً، أو شيعية ـ سنية، بل هي مسألة سياسية لا علاقة لها بالخطوط الشيعية الدينية أو بالخطوط السنية الدينية، كما أنّنا نعتقد أن المخابرات الأمريكية، وربما حتى المخابرات الإسرائيلية، هي التي تحاول أن تجعل من العراق ساحةً للفوضى، الّتي عبّر عنها الرئيس بوش بالفوضى الخلاقة، والّتي أراد لها أن تكون جسراً للزحف إلى دول المنطقة، كإيران وسوريا وحتى الخليج، ولذلك نجده يطلب في الاتفاقية المزعومة الآن إنشاء قواعد عسكرية، تارة يقول إنّها ستكون دائمة وتارةً أخرى يقول إنّها غير دائمة. ولذلك نحن نعتقد أنه ليس في العراق مشكلة طائفية بين السنة والشيعة، بل هي مشكلة سياسية في داخل السنة وفي داخل الشيعة.


س: وماذا عن العنف؟
ج: أنا أعتقد أن العنف كان ردَّ فعل على العنف، لأنّ تنظيم القاعدة الّذي العراق، عمل على أساس استباحة قتل المسلمين الشيعة، ثم بعد ذلك تحرّكت بعض الجهات السنيّة فيما يسمى "بعلماء الصحوة" وبدأوا يقتلون السنّة أيضاً. فمسألة العنف إنّما تنطلق من حال التخلّف في فهم الإسلام من جهة، ومن خلال خلفيات خارجية من جهة أخرى، قد يكون لبعض الدول العربية المتعصّبة دخل فيها.
إنّ العنف يمثل حالة بشريّة عالمية، وإلاّ، كيف نفسِّر عنف المافيات في الغرب؟ وكيف نفسِّر عنف الطلاب الذين يقتلون أساتذتهم في المدارس الأمريكية، أو الذين يقتلون بعضهم بعضاً مثلاً؟ وكيف نفسّر عنف الدولة التي تحتل دولة أخرى وتفتك بالنّاس؟!
فالمشكلة أنّ الذين يؤمنون بالعنف لحساب مصالحهم العامة أو الخاصة، يبررون العنف ويعطونه شرعيةً، ولذلك ينشرون العنف في العالم كلّه، سواء كان عنفاً عسكرياً أو اقتصادياً أو أمنياً.

ليست هناك تعليقات: