2 يوليو 2008

السيد فضل الله لـ"الكولونيل روجير شاناهان":
النجف هي الجامعة الإسلامية الشيعية الأم
وهي بدأت كحوزة علمية منذ أكثر من ألف عام



الروابط الثقافية العامة بين العائلات الشيعية في لبنان والعائلات الشيعية في النجف، محور المقابلة التي أجراها الكولونيل الأسترالي "روجير شاناهان" مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بتاريخ: 2/6/2008م.
س: ربما تجدونه شيئاً غريباً بعض الشيء، أن يكون لضابط أسترالي اهتمام أكاديمي بالشيعة، ولكنني منذ خدمت في بعثة الأمم المتحدة في لبنان عام 1995، بدأ اهتمامي يبرز في دراسة تطور العائلات الشيعية في لبنان، وأثناء عدوان تموز عام 2006م على لبنان، عملت كملحق للسفارة الأسترالية في لبنان، وقد تسنّى لي أن أقابل السيد شرف الدين وهو رتّب لي كل المقابلات التي أريدها.
هدف هذه المقابلة، أنه طُلِبَ مني أن أقدّم بحثاً لمؤتمر سيعقد في الولايات المتحدة الأمريكية في شهر تشرين الثاني، باسم مؤسسة الشرق الأوسط، وهي تُعنى بالروابط بين العائلات الشيعية في لبنان والعائلات الشيعية في النجف، وسوف أتوجّه بأسئلة عامة تتناول الروابط الثقافية العامة بين العائلات الشيعية في لبنان والعائلات الشيعية في النجف. أنا أعرف أن الروابط بين لبنان وإيران قد بدأت منذ القرن السادس عشر، عندما بدأ إرسال علماء الدين إلى إيران كي يبشّروا، ولاسيما من عائلات علمية في جبل عامل، لذلك أنا عندي فكرة نوعاً ما عن هذا الأمر، ولكنّي أريد التزوّد ببعض المعلومات عن هذه الروابط بين العائلات الشيعية في النجف والعائلات الشيعية في لبنان؟
ج: لقد كانت النجف تمثل المركز العلمي الديني الذي يلتقي فيه كل الذين يريدون التخصّص في الفقه الإسلامي وفق منهج أئمة أهل البيت(ع)، باعتبار أنّها كانت الجامعة العلمية التي يعيش فيها العلماء الكبار الذين يملكون الثقافة الاجتهادية التي تستطيع أن تعطي ثروةً علميةً لمن يتطلبها هناك.
وهكذا كانت هجرة العلماء من جبل عامل إلى النجف تنطلق من خلال هذا الهدف، فكان العلماء يتخرّجون من النجف ويأتون إلى جبل عامل، كما أنّ علماء جبل عامل الذين كانوا يسكنون في النجف مدةً طويلةً، استطاعوا أن يقوموا بدور كبير في التدريس والبحث حتى أصبحوا في الموقع المميز الذي تستفيد منه كل مدارس الشيعة، سواء في إيران أو في العراق أو في لبنان، من بين هؤلاء يأتي اسم السيد محمد الصدر، صاحب كتاب (مدارك الأحكام)، والشيخ حسن الصدر، صاحب (المعالم)، وغيرهما كثيرون، بحيث إنّ كتبهم بقيت تدرّس حتى وقت قريب في كل الحوزات العلمية.
وقد كان من علماء جبل عامل من لا يقتصرون على بلد واحد، مثل الشهيد الثاني، زين الدين الجباعي، الذي كان يحاول أن يأخذ العلم من أكثر من موقع، فقد سافر إلى مصر كما سافر إلى النجف، وكان صاحب مستوى علمي متقدّم في الاجتهاد، كما أنّ كتبه لا تزال تدرَّس في الحوزات العلمية إلى يومنا، وهي تعتبر من أمهات المراجع للدارسين في الفقه والأصول.
وهكذا امتدت العلاقات بين جبل عامل والنجف، فقد أصبح في كل جيل من الأجيال طلاب يأتون إلى النجف للدراسة، وقد تخرّج منها الكثير من العلماء الكبار الذين قاموا بتأليفات متنوعة، كالسيد عبد الحسين شرف الدين، والسيّد محسن الأمين، والشيخ محمد جواد مغنية، وغيرهم من العلماء الكبار الذين كانت كل دراستهم في النجف، ولكنهم كانوا منفتحين على أكثر من موقع من مواقع البحث والعلم في كل القضايا الإسلامية.
وأحب أن أؤكّد، أنه في منطقة جبل عامل التي تمثل الجنوب اللبناني، كانت هناك أيضاً مدارس علمية فقهية، إضافةً إلى مدارس أدبية، فنحن نلاحظ أنّ أغلب العلماء الذين كانوا في هذه المدارس، كانوا يتعاطون نظم الشعر وربما بعض الكتابات الأدبية، ولذلك كان هناك نوع من أنواع الاستقلال الذاتي من خلال الدراسة في جبل عامل، إلا أنّ البعض منهم كان يسافر إلى النجف حتى يستزيد من علم كبار العلماء، حتى إن البعض منهم كانوا ممّن تقدموا في تحصيل العلم، فوصلوا إلى مستوى المرجعية للعالم الشيعي، لولا بعض الظروف التي حالت بينهم وبين تنفيذ ذلك.



أنا أفهم أن حضرتكم قد ولدتم في النجف كالكثير من أبناء كبار العلماء، هل هناك روابط خاصة بينكم وبين النجف تتخطى الطابع العلمي، كونكم عشتم هناك لفترة طويلة من الزمن؟
ج: أولاً، هناك جانب من القرابة يشدني إلى النجف، من خلال علاقة القرابة النسبيّة التي تربطني بالمرجع الكبير السيد محسن الحكيم، فهو خال والدتي من جهة، وزوج خالتي ـ التي كانت من أمّ أخرى ـ من جهة ثانية...
ثانياً، لقد ولدت في النجف، لأن والدي أقام فيها لأكثر من ثلاثين عاماً، أستاذاً في الحوزة العلمية، ولذلك فقد كنت أعيش كأي إنسان نجفي، ولقد انفتحت على كل الأجواء الثقافية فيها، فلم أقتصر على الدراسة الدينية، أي دراسة الفقه والأصول، ولكنني انفتحت على الثقافة المعاصرة، فكنت شاعراً أنظم الشعر في وقت مبكر، كما كنت أديباً أكتب بطريقة أدبية، ومحاضراً في القضايا الثقافية، وكنت أيضاً أطَّلع على الثقافة الحديثة، سواء من خلال المجلات العربية، كمجلات مصر ولبنان، أو من خلال الترجمات عن الإنكليزية والفرنسية، فكنت أقرأ أشعار (لامارتين)، وقصص (أناتولو فرانس)، وأيضاً (شكسبير) وما إلى ذلك.
لقد كنت في النجف أنفتح على العالم المعاصر والثقافة المعاصرة في وقت مبكِّر، إضافةً إلى دراستي الدينية التي بدأت في سن مبكرة، وهي سنّ الثانية عشرة من العمر.


س: هل تشعر بأنك عراقي إلى جانب كونك لبنانياً؟ وهل ترك فيك النجف شخصيةً نجفية؟
ج: يمكن أن يكون إحساسي بالشخصية النجفية باعتبار أنني ولدت ونشأت وعشت أكثر شبابي في النجف، ولكن ذلك لا يمنع من اندماجي أيضاً في الشخصية اللبنانية، باعتبار أن جذوري التاريخية موجودة في لبنان، كما أنني منذ جئت إلى لبنان، دخلت في الساحة اللبنانية من الباب الواسع، سواء من الناحية الثقافية أو الدينية أو السياسية، ولذلك كانت نشاطاتي في لبنان تفوق نشاطاتي في النجف، وإن كنت في أثناء وجودي في النجف قد شاركت في تأسيس الحركة الإسلامية التي نشأت في الواقع الشيعي من خلال علاقة الزمالة مع السيد محمد باقر الصدر، ومع كثير من العلماء الحركيين المنفتحين.


س: أنا أعرف أن الروابط التي تربط العائلات الشيعية في جبل عامل بالنجف هي روابط كبيرة، ولكن هل يعتقد السيد فضل الله أنّه ما زال هناك تفضيل للعلاقات مع النجف، أم أن قم أصبحت هي المفضّلة؟
ج: النجف هي الجامعة الإسلامية الشيعية الأمّ، لأنها بدأت كحوزة علمية منذ أكثر من ألف سنة، وقد كان العلماء يأتون إليها من إيران والهند وأفغانستان، وأيضاً من البلاد العربية، من لبنان والخليج، كانوا يأتون إلى النجف من أجل أن يدرسوا فيها دراسةً تخصصيةً في الدراسات الفقهية، وكان الذي يتخرّج من النجف يملك موقعاً مميّزاً عندما يرجع إلى بلاده، وربما كان الشخص الذي يدرس في بلاده ولا تنطلق دراسته من النجف، لا يحصل على ذلك الموقع المميز، ولم تكن هناك أية علاقات بين النجف بشكلٍ خاص، أو العالم العربي بشكل عام، وإيران من حيث كونها حوزة علمية يذهب إليها الطلاب من أجل التخصص.
نحن نعرف أن بعض العلماء الكبار ذهبوا إلى إيران نتيجة بعض الظروف الخانقة التي كانت تهدّد حياتهم أو كانت تحيط بهم، ولكن لم تكن إيران في ذلك الوقت مقصداً لطلاب الفقه الإسلامي إلا بعد أن تحرّك صدام حسين في إضعاف النجف من خلال تهجير كل العلماء الكبار منها، عند ذلك لم تعد هناك أية حوزة علمية شيعية كبيرة يعيش فيها العلماء الكبار إلا في قم، فأصبح الطلاب من لبنان والخليج وحتى من العراق، يذهبون إلى قم للدراسة، لأن الحكم في العراق كان حكماً طغيانياً، وكان لا يسمح لكثير من غير العراقيين بالمجيء إلى النجف، كما أن النجف لم تعد كسابق عهدها تحتضن الكثير من العلماء الكبار، ولم يعد فيها تلك الحرية للدراسة. ولذلك فإن علاقة العراقيين والعرب بإيران من خلال الدراسة الفقهية في قم، كانت علاقة متأخرة، ولم تكن علاقة تاريخية.


س: أنا أعلم أن وقتكم ثمين جداً، لذلك سوف أنهي بسؤال أخير. يبدو لي أن العائلات الشيعية الدينية في لبنان لها تقاليدها التي تعود إلى مئات السنين، فهل من الممكن أن تبدأ عائلات شيعية دينية بالظهور بالقوة نفسها إلى جانب العائلات الشيعية الموجودة حالياً، أم أن هذا أمر صعب، بالنظر إلى التقاليد القائمة؟
ج: إنني أعتقد أن التطورات التي حدثت في العالم والتي امتدت إلى لبنان، ولاسيما بعد هجرة اللبنانيين إلى الغرب، أدّت إلى زوال بعض التقاليد والعادات من خلال تأثر اللبنانيين بالعادات الموجودة في بلاد المهجر، فنقلوا هذا التأثر إلى بلادهم، ولكن بقيت هناك بعض العادات والتقاليد لدى العوائل اللبنانية، سواء كانت عوائل علمية أو غير علمية، أو عوائل إسلامية أو غير إسلامية، ولكنّ هذه العادات والتقاليد لم تعد بتلك الضخامة التي كانت سابقاً، ومن الطبيعي جداً أن البعض من الطلاب الذين ليست لهم جذور تاريخية علمية، بحيث لا تعتبر عائلاتهم من العوائل العلمية، انطلقوا في دراساتهم في الحوزات العلمية، وخصوصاً في مدينة قم، فاستطاعوا أن يصلوا إلى مرحلة من العلم أورثوها لأبنائهم الذين ساروا على طريقة آبائهم في الدراسة، وأصبحت هناك عائلات علمية جديدة، لكن ليست لها جذور تاريخية كما هو حال العوائل العلمية الكبرى.
أشكركم، ويسعدني أنني تكلمت مع شخص بجلالة حضرتكم، ويملك هذا الباع الطويل من العلم.

ليست هناك تعليقات: