1 ديسمبر 2010

السيد علي فضل الله :
كان والدي يعرف أن السير عكس التيار سيتعبه




ضمن حفل التأبين الحاشد الذي أقامته بعثة الحج لمؤسسة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله في مكة المكرمة بمشاركةٍ واسعةٍ من جموع الحجيج، إضافةً إلى مشاركةٍ من بعثات حجٍّ رسميّةٍ وعلمائيّة، وحشدٍ من علماء الدّين. ألقى العلامة السيِّد علي فضل الله كلمةً تأبينيَّةً جاء فيها:

يعزّ، والله، عليَّ أن أقف بينكم، في المكان الّذي أحبّ، في البلد الحرام، في موسم الحجّ الّذي حرص على أن يتواجد فيه، في هذا الأرض الطّاهرة الّتي كان يستذكر فيها انطلاقة الإسلام، بكلِّ فكره وحركته وآفاقه وانفتاحه على قضايا الإنسان والحياة... فيه كان يستهدي رسول الله(ص) داعياً ومحاوراً ومجاهداً صلباً قويّاً في ذات الله، لا تأخذه فيه لومة لائم...

وفيه كان يتحسَّس معاناة أهل البيت(ع)، وكلّ الرّساليّين والدّاعين إلى الله، الّذين بذلوا الدّماء والنّفوس، وقدّموا كلّ حياتهم من أجل أن يستمرّ الإسلام حياً نقيّاً صافياً حاضراً في كلّ مواقع الأجيال، وعلى امتداد حركة الرّسالات...

وكم كان يستعيد في هذه الأرض آفاق جدّه الإمام الصَّادق(ع)، ومنطقه الحواريّ والإنسانيّ، حيث كان يحاور المختلفين، حتَّى الملاحدة والزّنادقة، حتّى قال أحدهم: ما وجدت شخصاً أكثر إنسانيّةً من جعفر بن محمد.

في هذا المكان، كان يؤكّد أهميّة هذه الفريضة الّتي لا تقف عند حدود العبادة والذّوبان في الله، بل تمتدُّ شعوراً بالمسؤوليَّة تجاه كلِّ قضايا المسلمين، وتأكيداً لوحدتهم، وتنميةً لعناصر القوَّة الكثيرة الموجودة عندهم..

يعزّ عليَّ أن أقف على منبره، لأتحدَّث عمَّن ملأ حياتي وحياتكم وكلَّ الحياة من حوله حبّاً وعاطفةً وعلماً وحيويَّة، وتجدّداً دائماً، وانفتاحاً لا تعرف عنده الآمال حدوداً.

فهو رضوان الله عليه، أدرك بعمق بصيرته، وثاقب فكره، أنّ الحياة ساحته الّتي زرع فيها وجوده، ضارباً في أعماقها كما الجذور تضربُ في الأعماق، لينتج شجرها أُكُلاً طيّباً كلّ حينٍ بإذن ربّها... وهكذا كان نتاجه وفيراً في الفقه والفكر والأدب والجهاد، وكذلك في العمل المؤسّساتي، وفي رعاية الأيتام والمستضعفين، ومواجهة كلّ ظلمٍ وطغيانٍ وانحراف...

لم يرضَ أن يخوض غمارَ الحياة كما يخوضها طالبو الرّاحة، أو أن يهدأ حيث يهدأ النّاس أو يرتاح حيث يرتاحون، فضَّل أن يكون تيّاراً معاكساً قويّاً، عندما كان يرى التيّارات المتنوّعة لا تنطق بالحقيقة، بل تعاديها، وفضَّل أن يكون ماءُ تيّاره مما يمكث في الأرض وما ينفع النَّاس، لا زبداً رغواً جُفاءً لا يعكس شيئاً من الحقيقة..

كان يعرف أنّ ذلك سيُتعبه، وأنَّ السّير مع التيّار أكثر راحةً وربحاً، ولكنّه كان يؤمن بأنّ الإنسان ينبغي أن يكون هو نفسه، لا أن يكون ظلاً وصدى لإنسانٍ آخر..

ومن هنا، سعى لأنْ يقدّم للأمّة فكراً صافياً بعيداً عن الغلوّ والخرافة والتطرّف، وقف مع قضايا الأمّة في فلسطين والعراق، رفضاً للاحتلال والاستكبار، ووقف مع المقاومة في لبنان داعماً ومؤيّداً ومسدّداً، ودعا الأمّة إلى أن تفكّر، وأن تُطلق فكرها في كلّ شيء، وفي الوقت نفسه، لم يرد أن نفكِّر بناءً على انفعالٍ أو عصبيّة، أو أن نخضع للمجاملات أو للأمر الواقع والاستجابة لمتطلّباته.

دعا إلى تلاقح الأفكار والحوار بين أصحابها، وإلى تواصل الحضارات لا إلى صراعها، وإلى بناء الجسور بين الطّوائف والمذاهب.

وقد انطلق في مسيرته وجهاده، لا يخاف في الله لومة لائم، وقد رفع شعاره على الدّوام: "لا يؤنِسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنَّك إلاّ الباطل"، "الذّليلُ عندي عزيزٌ حتَّى آخُذَ الحقّ له، والقويُّ عندي ضعيفٌ حتَّى آخُذَ الحقّ منه". وقد كلَّفه ذلك، وهو يواجه الاستكبار الصَّغير والكبير، محاولات اغتيالٍ وتهديدات، ولكنَّه بقي بعين الله وحفظه، لم يهنْ ولم يضعف، وكان يؤمن باستمرار أنَّ الرّساليّين هم الأعلون..

هذا هو السيِّد.. ولن أجد الكلمات الّتي تفيه حقَّه، والعبارات الّتي تصوِّر عمق شخصيَّته.. تتساقط كلّ الكلمات، وتضعف كلّ العبارات أمام قامته العلميَّة والفكريَّة والإنسانيَّة.. وهو الّذي لم يكن همّه مديحاً ولا ثناءً، كان همّه ونداؤه فينا: الله الله في الإسلام، أبقوه حيّاً.. الله الله في الوحدة الإسلاميَّة، الله الله في حفظ كلِّ مواقعكم، لا تتفرَّقوا ولا تتنازعوا حتَّى لو اختلفت مذاهبكم وأفكاركم وتوجّهاتكم ومواقعكم، لأنَّكم إذا تنازعتم ستفشلون وتذهب ريحكم..

لقد رحل(رض) وترك لنا تراثاً ممتلئاً بالحيويّة والحركيّة والرّساليّة، وسيتابع الفقهاء دراسة فكره الاجتهاديّ، كما أنّ العلماء والمثقّفين ورجال الفكر الّذين واكبوا سماحته في حياته، سيتابعون مسؤوليّة مسيرة الوعي الفكريّ والثّقافيّ الّتي أطلقها وسار في مقدّمها، ليشكّلوا مرجعيّةً فكريّةً أصيلةً وثقافيّةً واعيةً منفتحة...

سيبقى حضوره قويّاً فينا، لأنَّ امتداد حياته بعد وفاته هو من امتداد الرّسالة الّتي عمل من أجلها طوال حياته الشّريفة..

أيّها الأحبّة،كلّ الشّكر لكم، أنتم أيّها الأوفياء الأعزّاء... أنتم في قلب السيّد ووجدانه.. وهو في قلوبكم ووجدانكم، والمسيرة الّتي خطّ معالمها ورسم آفاقها، ستبقى بعون الله وبكم، مسيرةً لن تنطفئ جذوتها...

شكراً لحضوركم جميعاً أيّها الأوفياء، من كلّ البلدان والمواقع

ليست هناك تعليقات: