14 ديسمبر 2010

«ويكيليكس».. قراءة ما بين السطور


جعفر محمد حسين فضل الله
ممّا لا شكّ فيه أنّ ما نشره موقع ويكيليكس من «وثائق» عمّا كان يدور وراء الكواليس لدى الأنظمة الغربيّة والعربيّة، ولا سيّما تجاه أحداث ومنعطفات خطيرة شهدتها منطقتنا، كحرب الكيان الصهيوني على لبنان في 2006، أو حربه على غزّة بعدها بثلاث سنوات، وما خصّ ملفّ إيران في حركة السياسة الدوليّة بكل تشعّباته، لا شكّ في أنّه لم يزد في الأمر شيئاً لدى الشارع العربي والإسلامي، الذي حلّل واستنتج ما هو أبعد من المنشور لدى ذلك الموقع الالكتروني، ولكنّه لم يحرّك ساكناً إزاء ذلك؛ لأنّه أدمن واقعه إلى حدّ الاستقالة المطلقة من التأثير فيه. وبالتالي يُمكن تشبيه ما نُشر في ويكيليكس بخبر الموت لمن علمنا سلفاً بدخوله في الموت السريري.
وبغضّ النظر عن الهدف من وراء عمليّة النشر هذه، ومن هو المستفيد منها، فإنّ من غير الممكن الاستخفاف بما نُشر، باعتبار الوثائق مجرّد تحليلات لدبلوماسيّين، أو مجرّد انطباعات شخصيّة أو ما إلى ذلك، بل لا بدّ من الوقوف مليّاً عندها لأجل تحقيق أمرين:
الأوّل: أيّاً ما كانت الخلفيّات الكامنة وراء النشر، فإنّها تساهم في إيجاد واقع فتنويّ بين الدول،
ولا سيّما بين الدول الإسلاميّة والعربيّة، وهو أمرٌ مرفوض، ولا سيّما في هذه المرحلة التي نشهد فيها تقهقراً للمشروع الأميركي، بعد التخبّط الذي لحق به في لبنان والعراق، ولا يزال كذلك في أفغانستان، وشيئاً من التقارب القهري بين الدول العربية والإسلاميّة، ولا سيّما بين دول الخليج وإيران..
الثاني: في الوقت الذي لا ينبغي أن يُسمح فيه لما نشرت ويكيليكس من وثائق أن تبثّ الفتنة في واقعنا، فإنّها تمثّل فرصة ينبغي أن تدفعنا للنظر إلى واقعنا كما هو، ومن دون مساحيق تجميل أو كلام معسول، بُغية الانكفاء قليلاً لإصلاح واقع الحال، وهو يتمثّل في اتجاهين:
أوّلاً: أنّ الشعوب معنيّة اليوم باستعادة الثقة في قراءاتها للواقع السياسي، ولا سيّما تجاه القضايا المصيريّة، وطبيعة اللعبة الدوليّة والإقليمية التي تتحكّم فيها؛ فإنّ هذه الوثائق تؤكّد أنّ التحليلات الشعبيّة للمرحلة الماضية، هي قراءات صحيحة في ما يتّصل بطبيعة التناغم الذي يحصل في كثير من الأحيان بين سياسة البلدان والسياسة الدوليّة التي تسيطر عليها دولٌ كبرى، في مقدّمتها الولايات المتحدة الأميركية، والتي تصبّ في مصلحة كيان العدوّ بشكل وبآخر. وهذا ما يفترض أن يُبعد الشعوب عن التأثّر بكل عمليّات الإلغاء والتجهيل التي تمارسها الأنظمة السياسيّة على شعوبها، وتدفعها إلى الانكفاء عن أخذ زمام المبادرة في التأثير في مجريات العمليّة السياسيّة حتّى تحوّلت كثير من بلداننا إلى سجون كبيرة، لا تحتجز فيها السلطة شعبها فحسب، بل يُغري الشعب نفسُه السلطة بالإمعان في إلغائه من قاموس اعتبارها السياسي.
منذ زمن، أدركت الشعوب بأنّ تحكّم مجموعات سياسيّة بمفاتيح مصائر الشعوب، وترك الأمر على عواهنه، بعد اختبارات عديدة لم نحتج إلى «وثائق» ويكيليكس لنتأكّد منها، هو أمرٌ ينذر بإضاعة المستقبل والتاريخ معاً أمام مشاريع كُبرى أظهرت الوثائق أنّ الكثيرين منغمسون فيها حتّى آذانهم.
وإذا استعاد الشعب ثقته بنفسه على مستوى إمكانيّته الذاتية لقراءة ما يجري من حوله، والوصول إلى نتائج، فبالإمكان أن يستتبع ذلك ما هو أبعد من «الإنتاج المعرفي» للحلول، إلى التطبيق العملي للحلول التي تضع الأمور في نصابها الطبيعي. كما أنّ ذلك سوف يدفع القادة السياسيّين، الذين أمعنوا في إلغاء الشعب من حساباتهم في إدارة شؤون البلاد وتقرير المصير، وإلى العمل على تحقيق تصالح ما مع شعوبهم.
ثانياً: أنّ الخلفيّة التي تتعامل فيها الدبلوماسيّة الغربيّة، ولا سيّما الأميركية، مع سياسيّي العالم العربي والإسلامي عموماً، هي خلفيّة عنصريّة، تنظر إلى العالم من فوق، ولا توحي بأدنى حالة احترام للمنطقة، عبر قادتها السياسيّين، إلا بمقدار ما تُثبت بعض الدول أنّها ليست في موقع الضعف ولا يُمكن أن تقبل بمنطق الاستضعاف الذي يريد المستكبرون الدوليّون فرضه على الواقع برمّته. كما أنّنا رأينا ـ من خلال هذه الوثائق ـ أنّ هذا العالم الذي يهابه الكثيرون هو عالمٌ بشري في أدنى مستوياته الأخلاقيّة والإنسانيّة، ويصيبه ما يصيب الناس العاديّين من الشعور بالحسد والحقد والسخافة وسيادة الذهنيّة الشرّيرة في مقاربة كثير من الأمور.

ليست هناك تعليقات: