21 ديسمبر 2010

التقييم بين الضبابيّة والملموس

نتداول في حياتنا اليومية كثيراً من العناوين والأوصاف نَصِف بها أشخاصاً لنشير إلى نقاط القوّة وعناصر القيمة في شخصيّاتهم فيما يختصّ بمكانتهم الاجتماعية بالنسبة إلى هذه الدائرة أو تلك، فنقول ـ مثلاً ـ إنّ فلاناً مخلص في عمله تجاه الآخرين، أو أنّه مسلم، أو أنّه مناضل، أو أنّه ثوريّ، وما إلى ذلك مما لا ينفد تعداده ولا ينتهي ذكره وبيانه.

لا تبدو ثمّة مشكلة في كلّ ذلك، لأنّ الأوصاف والعناوين تحمل دلالات على نوعيّة الشخصيّة في ميزان القيمة، ما يفتح الباب أمام التفاعل الإنساني، من خلال الحاجات المتبادلة، ليقوم الإنسان باستثمار هذه القيمة أو تلك في هذا المجال أو ذاك.

لكن قد تبدو المسألة بحاجة إلى نوع من التأمّل، خصوصاً عندما يتّصل الأمر بميدان العمل؛ لأنّ تلك الأوصاف القيمية بحاجة إلى أنّ تتحلّل إلى وقائع ملموسة قابلة للقياس، وذلك لكي تخرج عن أن تكون مجرّد انطباعات ساذجة أو عناوين فارغة، كما أنّ مسألة التقييم هي مسألة نسبيّة، فقد تختلف من شخص إلى آخر نتيجة لنوعيّة الاحتكاك وكمّيته، حيث تجد من يعتبر إنساناً آخر من الثقات الذين يُعتمد عليهم في أكثر من جانب، بينما يراه آخر ـ نتيجة لاطّلاعه على بعض ما لم يطّلع عليه ذاك ـ غير موثوق به كلّياً أو لا يمكن الاعتماد عليه إلا في بعض الجوانب دون بعض.

وعلى هذا الأساس، ومن أجل الوصول إلى معايير واضحة وموحّدة في مسألة التقييم لا بدّ من تحليل العناوين والأوصاف إلى مفردات لها مظاهر على مستوى السلوكيّات والتصرّفات يمكن قياسها وحسابها وتعدادها. فالمخلص في عمله هو الذي يجري وفق قوانين العمل فلا يخالفها، وهو الذي تتقدّم عنده مصلحة العمل على المصلحة الشخصيّة؛ لأنّه يعتبر نفسه دائماً جزءاً من كل، وهو الذي ينشد التعاون والتكامل مع أقرانه من العاملين في نفس الإطار ويبتعد عن الفرديّة، وما إلى ذلك.. فإنّك إذا شكّلت استمارة مثلاً أمكنك ببساطة أن تحصي الوقائع التي يخالف فيها القوانين، أو يراعي فيها مصالحه الشخصية على حساب تدمير العمل، أو يرفض التعاون مع الآخرين، وعندئذٍ فإنّ بالإمكان أنّ تتحوّل صفة الإخلاص إلى أرقام ونسب بدلاً من أن تكون صفة معلّقة في الهواء قد تكتشف ـ إذا ما دقّقت في مظاهرها ـ أنّها لا تعدو نسبة الـ 10% من مجمل السلوكيّات.. يعني: مخلص بنسبة 10% فقط‍‍ .

ولعلّه تحسُن الإشارة هنا إلى ما ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع) في صفات الشيعة، حيث يقول (ع): "والله ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وكانوا يُعرفون بالتواضع والتخشّع وصدق الحديث وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء،..."، فإنّه (ع) حوّل صفة التشيع إلى مفردات يمكن ملاحظتها وحسابها وقياسها في سلوكيّات الحياة اليومية، والتي تسمح ـ إلى حدّ كبير ـ بإعطاء حجم القيمة الفعلية من خلال ذلك. وكذلك الأمر فيما ورد في تحديد من هو المسلم في بعض الروايات حيث تقول: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه"، ثمّ تحلّل روايات آخرى طبيعة تلك السلامة بمفردات محدّدة كعدم الاعتداء على ماله وعرضه وعدم سبّه وتعاهده بالنصيحة والمودّة وما إلى ذلك.. والله من وراء القصد.


ليست هناك تعليقات: