15 سبتمبر 2010

«السيّد» والأهلّة والفلك.. والتّجديد


عندما كان المرجع الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله، يُعلن بداية شهر رمضان وعيد الفطر (أوّل شوال) قبل أيّام من نهاية الشّهر؛ بل أعلن أنّه يُمكنه أن يُعلن بدايات الشّهر لخمسين سنةً مقبلة، اعتماداً منه على المعطيات الفلكيّة الدّقيق

ة، كان ذلك مثاراً للجدل في الأوساط الفقهيّة، ومثاراً للإثارة في أوساط عديدة، ولا سيَّما لدى الجمهور المتديِّن الّذي يرجع إلى مرجعيَّاتٍ فقهيّةٍ متعدِّدة لا ترى رأي السيِّد فضل الله.

ومع الأسف، كانت المرحلة السَّابقة تنفتح على كثيرٍ من التَّجاذبات الّتي تدفع إليها حركة الاختلاف الفقهيّ والمرجعيّ، بما كان يحاول رمي الطَّرح الجديد والقويّ على مستوى إعلان بدايات الأشهر القمريّة قبل أيّام على الأقلّ، بمخالفة السنّة الشّريفة المتّبعة على مدار التّاريخ الإسلاميّ، والقائمة على التماس الهلال بالرّؤية بالعين المجرّدة بعد 29 يوماً من الشّهر السّابق،

أو بمحاولة مجاراة العصر دون أساسٍ شرعيّ، أو بالاعتماد على أقوال المنجّمين الّذين نهينا عن اتّباع أقوالهم من خلال ما ورد في الأحاديث والرّوايات الدّينيّة، وما إلى ذلك، ممّا عشناه ولا نزال نعيشه بشكلٍ وبآخر.

ولكنَّ ما لم يُلتفت إليه، بل ما لا يُلتفت إليه عادةً، هو التّأثير غير المباشر لآراء المجدِّدين في تغيير الذّهنيَّة العامَّة تجاه أمرين:

الأوَّل: النّظرة الشَّائعة، حتّى لدى المدارس الدّينيَّة والحوزات العلميّة، لعلم الفلك، وتلاشي فكرة الخلط بينه وبين التّنجيم، بما جعل الفكر الدّينيّ يبتعد شيئاً فشيئاً عن فكرة أنّه سيبتعد عن النّصّ الدّينيّ (الّذي يتحدَّث بالسَّلب عن اعتماد التَّنجيم)، إذا ما أخذ بمع

طيات علم الفلك والأرصاد.

وقد شهدنا خلال سنواتٍ لاحقة، بعد إعلان السيِّد فضل الله المتكرِّر والمسبق عن أوائل الشّهور القمريّة، أنّ الثّقافة الفلكيَّة بدأت تنتشر لدى رجال الدِّين والمرجعيَّات الدّينيّة، بما جنَّب السَّاحة إعلاناتٍ غير علميّة لبداية الشّهر اعتماداً على شهادات الشّهود، ما دام العلم ينفي إمكانيّة رؤية الهلال في الأفق المفترض؛ ولا سيَّما أنَّ العالم الإسلاميّ شهد منـزلقاً كبيراً في العام 2004م، وتمثّل بإعلان عيد الفطر اعتماداً على شهاداتٍ كثيرةٍ، في حين كان القمر في طور المحاق في الآفاق المدَّعاة للرّؤية، في حين لم يفطر السيِّد فضل الله إلا في اليوم التّالي، ودائماً استناداً إلى المعطيات العلميّة.

وهذا كلُّه يؤكِّد أنَّ حركة التَّغيير في الأفكار، تحتاجُ إلى وقتٍ تختبر فيه المواقع العلميَّة المتنوّعة، قدرة الرّأي الفقهيّ على الثَّبات والتَّعبير عن نفسه باتّزان، بما يعطي الثِّقة الغائبة لدى الجماهير والنّخبة بعلم الفلك ومعطياته.

وبدأنا نشهد منذ الأعوام السّابقة، اعتماداً مطّرداً للفقهاء المسلمين عموماً على معطيات علم الفلك، قبل الإعلان، وقبل الدّعوة إلى الاستهلال، فأخذوا بجانب السّلب، أي عندما يحكم الفلك باستحالة الرّؤية أو تعذّرها، فإنّهم لا يقبلون شهادة الشّهود مهما كانت درجة وثاقة أصحابها.. بل بدأنا نشهد في أوساط عديدة، ولا سيَّما في الوسط الفقهيّ الإسلاميّ الشّيعيّ، آراء تأخذ بمعطيات الفلك في الجانب الإثباتيّ أيضاً، وهذا يمثِّل تحوّلاً مهمّاً على هذا الصّعيد.

الثّاني: النّظريّة الفقهيّة الاجتهاديّة، حيث انفتح الفكر الاجتهاديّ، لدى المسلمين السنّة والشّيعة معاً، على أفكارٍ جديدةٍ تتعلّق بتحديد بدايات الشّهور بما ينسجم مع أحاديث الرّؤية، لتضعها في موقعها الطّبيعيّ من وسائل العصر آنذاك، من دون أن تنفي انفتاح التطوّر العلميّ على وسائل جديدة تفيد فائدة الرّؤية، بل تتفوّق عليها دقّةً وعلميّة.

كذلك، فإنَّ الفكر الاجتهاديَّ بدأ يقارب فكرة إمكانيَّة تجاوز أفق البلد، ليكون أفق الرّؤية متَّسعاً للعالم تبعاً لنظريَّة اللَّيل المشترك، حيث بات يُنظَرُ باحترام إلى الرّأي الّذي يقول بكفاية إمكانيَّة رؤية الهلال في أيِّ بلدٍ غربيّ يجمعه بأيّ بلدٍ شرقيّ جزء من اللّيل، بمعنى أن يكون غروب الشّمس في البلد الواقع غرب خريطة العالم، قبل طلوع الفجر في البلد الواقع شرقها؛ وهذا ما شهدناه في العام الحاليّ وسابقاً، من إعلان المركز الأوروبّي للإفتاء بداية الشّهر في أوروبّا اعتماداً على إمكانيّة الرّؤية في أميركا الجنوبيَّة.

وعلى الهامش، فهذا الأمر لا ينبغي أن يُقارَب من جهة التَّقارب في الرَّأي الاجتهاديّ فحسب، بل هذا الأمر ينبغي أن يُنظَر إليه كخطوةٍ مهمَّةٍ على صعيد التَّقارب الإسلاميّ (السنّي ـ الشّيعي) واقعيّاً، في واحدة من المسائل الاجتهاديَّة الدَّقيقة، بمعنى أنَّ العقل الاجتهاديَّ عندما يتحرَّك، فإنَّه يختبر في مقاربته للأدلَّة، إمكانيَّة الوصول إلى نتائج مشتركة، شكَّل الاختلاف المذهبيُّ عنصر غنىً للفكر الاجتهاديّ الإسلاميّ، بما يقرِّب فكرة إمكان إنتاج فقهٍ إسلاميّ فوق مذهبيّ، في حركته وبعض نتائجه على الأقلّ.

ونحن لا نرمي في هذه المقالة التّركيز على أهمّية ما قدَّمه السيّد محمد حسين فضل الله للفكر الاجتهاديّ وللممارسة الفقهيّة في هذا المجال؛ فإنَّ هذا بات واضحاً لا لبس فيه.. بل أردنا الإشارة إلى المسؤوليَّة العلميَّة الّتي تحتِّم على المشتغلين في الإطار الدّينيّ، والفقهيّ على وجه الخصوص، تأكيد ما يصنعه التَّراكم العلميّ في حركة تطوّر الفكر عموماً، وهذا ما يفترض الثّبات على تطبيق الرّأي الاجتهاديّ على الواقع، من خلال الاستناد إلى المعطيات العلميّة؛ وهذا ما قام به المكتب الشّرعيّ للمرجع الراحل، والّذي يضمّ نخبةً من العلماء وأهل الفضل ذوي الخبرة والكفاءة الشّرعيّة، في إعلانه بداية شهر رمضان يوم الأربعاء الحادي عشر من شهر آب الماضي، وفي إعلانه عيد الفطر يوم الخميس 9/9/2010م، تطبيقاً للمبنى الفقهيّ للسيّد فضل الله، فضلاً عن كونه الرّأي الّذي يمثّل مرجعاً لجماهير واسعة على امتداد العالم.

وأخيراً، ينبغي علينا الإشارة إلى أنّ تطوّر التّفكير في هذه المسألة المهمّة، يقع على عاتق التّعاون بين علم الفقه والنّظرة المتجدّدة فيه، (ولا سيّما إلى القرآن الكريم، حيث إنَّ لعدد من الآيات القرآنيّة دلالاتٍ مهمّةً يُمكن أن تشكّل فتحاً في هذا المجال)، وبين علم الفلك، حيث إنّ لتقديم المعطيات العلميّة عن حركة القمر والشّمس والأرض، أثراً مهمّاً في وضوح الرّؤية للظّواهر المتعلّقة بها لدى العقل الاجتهاديّ الّذي لا يزال ـ في كثيرٍ من مواقعه ـ يقارب المسألة بكثيرٍ من الأفكار السّابقة الّتي تغيّرت وتبدّلت وانفتح الواقع العلميّ على كثيرٍ من معطيات مختلفة فيها..

التاريخ: 25 رمضان 1431 ه الموافق: 04/09/2010 م


ليست هناك تعليقات: