27 سبتمبر 2010

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:

المفهوم الإسلاميّ للجمال


يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

بسم الله الرحمن الرحيم

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر : 64].

قيمة الجمال

للجمال قيمة لا يختلف النّاس حولها... فهو يرضي روح الإنسان ويملأ كيانه، وينعش حياته، إن في الشّكل الخارجيّ في تناسق الأبعاد أو انسجام الألوان أو تناغم الأصوات، أو في البعد الدّاخليّ، من خلال جمال العقل وجمال الرّوح وجمال الأخلاق وجمال القلب، وجمال الإيمان والسّلوك.

فالجمال يُعبَّر عنه في كلّ ما يصدر عنّا أو من حولنا، فلكلّ شيءٍ صورته الجميلة أو عكسها، فالهيئة، والكلام، والموقف، واللّغة... كلّها إمّا أن يرتفع بها الجمال فتسمو وترقى، أو تنحطّ مع القبح والبشاعة.

وللجمال موقعه الكبير لكونه يشير إلى صفةٍ من صفات الله عزّ وجلّ، واسمٍ من أسمائه الحسنى، فالله جميل في ذاته، فهو{نور السَّماوات والأرض}[النّور: 35]، وجميل في أسمائه، فله من الأسماء أحسنها وأكملها، وله من الصّفات أجملها: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180].

والله جميل في كلامه، فالقرآن كتابه، هو سيِّد الكتب رحمةً وعذوبةً وجمالاً، كلّ آياته تنتهي بلحنٍ جماليّ فيه تناسق التّعابير، حتّى تخاله شعراً وما هو بشعر، وهو فوق كلّ نثر. والملفت أنّ هذا الجمال هو مرافق لكلِّ آيات القرآن، فنلمس الجمال في الآيات التّرغيبيّة: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ* قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً* وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً}[الإنسان: 15- 18].

وكذلك نلمس الجمال في الآيات التّرهيبيّة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه* خُذُوهُ فَغُلُّوه* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة: 28-32].

كما ونلمس الجمال في آيات الحرب كما نلمسه في آيات السّلم، وفي الآيات الّتي تتحدّث عن حالات التوتّر أو حالات الهدوء، فكلّ آيات القرآن تفيض سلاسةً وعذوبةً وجمالاً.

الجمال صورة الإنسان

والجمال أيضاً صورتنا... هو صورة الإنسان عندما خلقه الله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[التّغابن: 3].

أمّا في الكون، فالأمر لا يستدعي أن نبحث كثيراً وبعيداً، ففي الطبيعة القريبة منّا، ندرك الجمال بأبهى صوره وأروعها: تناسبٌ في الأشكال، وانسجام في الألوان، اللّون الأخضر يتناسق مع لون التّراب ولون صفحة السّماء، وكذا كلّ الألوان الأخرى، مع تدرّجاتها الّتي لا حصر لها... في الكون كلِّه أنت لا ترى حولك أيّ نشازٍ أو خلل جماليّ، إلا ما تدخَّل به الإنسان.

وللإشارة إلى كلّ جمال الكون، كان النّداء من الله أن انظروا وتأمّلوا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}[ق: 6]... {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وإلى السّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ* وإلى الجبالِ كيفَ نُصِبَتْ* وإلى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17-20]...

وإذا كانت النّظرة الإلهيّة إلى الجمال بهذه الرّوعة، فلماذا نظهر كمسلمين بأنّنا غير معنيّين بإظهار هذه الصّورة؟ إنّ المسلمين، أيّها الأحبّة، بعيدون عن ذلك، فيما يأمرهم الله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف: 31].

هو أمرٌ واضحٌ من الله لكلِّ عباده بالتزيّن، وتأكيد الأمر أكثر أثناء توجّههم إلى الصَّلاة في بيوت الله. في رأيكم، أيّ دلالةٍ هي أبرز من هذه الدّلالة؟! ثم لو كان الإسلام يتناقض مع الجمال، لما كنّا وقفنا على العديد من الأحاديث التي حثَّت على نظافة البيوت والطّرقات، وتلك التي اعتبرت غرس الأشجار صدقة، وإزالة الأذى عن الطّريق صدقة... كما وفي كلّ مناسبة، لا يتوانى الإسلام عن دعوتنا إلى التزيّن في المظهر واللّباس. جاء عن أمير المؤمنين(ع): "ليتزيّن أحدكم لأخيه المسلم إذا أتاه، كما يتزيَّن للغريب الّذي يحبّ أن يراه في أحسن هيئة".

الإسلام يدعو إلى التجمّل

وأكثر الإسلام من الدّعوة إلى التّجمّل، واستبق ما قد تؤول إليه حال النَّاس، فأكَّد عدم حبّ البؤس والتَّباؤس.. فقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "إنّ الله جميل يحبُّ الجمال، ويحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده"، وعندما سُئِلَ كيف؟ قال: "ينظِّف ثوبه، ويطيِّب ريحه، ويُحسِّن داره". وعنه(ص): "أحسنوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم، حتَّى تكونوا كأنَّكم شامة في النَّاس". وعندما أبصر رسول الله رجلاً شعثاً رأسه، وسخة ثيابه، استنكر ذلك وقال: "من الدّين المتعة". وقد ورد عن أبي عبد الله(ع): "البس وتجمَّل، فإنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، وليكنْ من حلال".

وقد دخل الإسلام في التَّفاصيل، عندما قال رسول الله(ص): "ليأخذ أحدكم من شاربه، والشَّعر الَّذي في أنفه، وليتعاهد نفسه، فإنَّ ذلك يزيد في جماله"، وقد ورد عنه أيضاً: "من اتَّخذ شعراً، فليحسن ولايته أو ليجزّه".

ورسول الله(ص) كان، وكما تذكر سيرته، يحرص على حسن السَّمت وجمال الشَّكل واللّباس، وكان يحبّ اللّباس الأبيض، وكان يقول: "البسوا البياض، فإنَّه أطيب وأطهر"، وكان له لباس يلبسه في العيدين والجمعة، وعند استقبال الوفود، وكان يعرف بطيب الرّائحة، وكان ينفق في الطّيب أكثر مما ينفق في الطّعام...

تجلّيات الجمال

هذا في جانب الشّكل والمظهر الخارجيّ، ولكنّ الإسلام ـ ومن خلال تربيته لنا على الاتّزان. لم يكتف بذلك، بل راح يَتحدّث عن كلّ ما يتمّم جمال المظهر، ليحدّثنا عن جمالٍ آخر، ولذا كان الدّعاء: "اللّهمّ فكما حسَّنت خَلقي فحسِّن خُلقي"، كما وأشار إلى لباس التَّقوى، حيث يقول القرآن الكريم: {ولباسُ التَّقْوَى ذلكَ خير}[الأعراف: 26]، ولباس التَّقوى ما هو إلا جمال الدَّاخل.

وعمَّم الإسلام مفهوم الجمال، ليكون ‏الجمال جمال اللِّقاء، في الابتسامة وطلاقة الوجه، قال رسول الله(ص): "إنَّكم لن تسعوا النَّاس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر".

والجمال جمال الأخلاق، والتَّواضع هو زينته: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}[الفرقان: 64].

والجمال جمال العقل، والفكر السَّليم زينته... وتكرُّ سبَّحة الدَّعوة إلى إقران الجمال بكلِّ شيء، فالصَّبر ينبغي أن يكون جميلاً، وهو الصَّبر بلا شكوى أو تأفّف...

وجمال اللّسان هو بصواب القول بالحقّ والخير أو الصّمت... وجمال العبد الطّاعة... وجمال المعروف في إغاثة الملهوف وتنفيس المكروب... وجمال المؤمن في ورعه... وجمال الرّوح بالشّكر وصفاء النيّة... وجمال الإحسان ترك الامتنان والأذى... وجمال الجدال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]. وحتّى في الهجر، فالجمال مطلوب، قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}[المزمّل: 10]، وهو الإعراض الّذي لا عتب فيه ولا مخاصمة... وجمال النّقد الوعظ سرّاً .

هذا هو الإسلام أيّها الأحبّة... ترك لنا الإرث الكبير لنستهدي به، وليكون لنا منارةً تساعدنا على التّطبيق.

تناقضٌ في الواقع الإسلاميّ

ولا يخفى على أحدٍ أنّ المسلمين السّابقين عاشوا الجمال في تاريخهم المضيء، فبرزوا في مجال الفنّ، وأبدعوا حضارةً شعَّت على الكثير من الحضارات، والأمثلة كثيرة ما زالت ماثلةً في الشَّرق والغرب، وهي تُدهش الأنظار وتحيِّر الفنَّانين .

وفي هذا نقول: لا عذر أبداً في ما هو حال المسلمين اليوم.. في أماكنهم العامَّة.. في الشَّوارع والطّرقات، وحتّى في أماكن عباداتهم وأقدسها.

إنّ المسلمين اليوم، أيّها الأحبّة، في تناقضٍ بين ما يأمر به دينهم وبين واقعهم... إنَّهم يحرمون أنفسهم من الاستفادة من هذه القيمة، والّتي عليهم أن يعيشوها لذاتها، وليس ليبرهنوا لأحدٍ أنّهم كذلك، يعيشون قيمة الجمال بذاتها، ليس للتّباري في مسابقاتٍ تستخفّ بالعقل وبالعمل وبالإبداع.. والحديث يقول: "قيمة كلِّ امرئٍ ما يحسنه".

كلّ هذا مع ضرورة وعيهم بأنّ الفوضى في الشّكل، وسوء المظهر إلى حدّ القبح أحياناً، يُفسِدُ الكثير من أهدافهم الرّساليّة لنشر الدّين والخير.

نعم، هذه الصّورة قد تكون حاجزاً يمنع الآخرين من النّظر إلى الإسلام نظرةً إيجابيّة.. لأنّ البعض قد لا يفرّق بين كون هذا ناشئاً عن المسلمين أو عن الإسلام.

دعوة إلى التّوازن

وإنّنا في الوقت الّذي نطالب بتمسّك المسلمين بقيمة الجمال لكلّ ما ذكرنا، ليكون الجمال هو طابع أشكالهم وبيوتهم، ومظهر مدنهم وقراهم، وعنوان حياتهم، ندعوهم إلى عدم الابتعاد عمَّا أوصى به الإسلام.. فالإسلام أوصى بالتَّوازن وعدم المبالغة أو الاستغراق في هذه الأمور. وهذا ما نشهده حاصلاً اليوم لدى البعض، تأثّراً بنمط عيشٍ فرضه الآخرون عليهم، فصرنا نشهد اللّهاث وراء صيحات الجمال، والهوس في عمليات التجميل والتجمّل، وبالتّالي عدم الرّضا، لأنّ هناك من يقرِّر مواصفات ومقاييس لهذا الجمال، بحجّة روح العصر.. وليس هو من روح العصر، بل من ابتكارهم، لإشغال النّاس عن قيمهم ومبادئهم والقضايا الأساسيّة، بحيث يستغرقون بالشّكل وينسون المضمون.

الجمال مطلوب، ولكن ليس إلى حدّ الإسراف أو عدم التّوازن.. فالجمال قيمة لا يمكن أن تبرز وحدها، بل هي تشعّ ويتألّق بريقها وسط قيم التعقّل والتّواضع والرّزانة والوقار والرّضا والقناعة، والأهمّ هو الالتزام الدّقيق بالأحكام الشّرعيّة، وهذا ما لا بدّ من تأكيده.

أيّها الأحبّة: هذا هو الجمال الّذي نفهمه وندعو إليه، وهو الّذي ينبغي أن نعيشه في حياتنا الدّنيا، وصولاً إلى حياتنا الأخرويّة، حيث الجمال لا جمال فوقه:

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً* عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا* إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا}[الإنسان:20-22].

ليكن الجمال شاملاً، جمال الشّكل الّذي لا يكون على حساب جمال العقل والقلب والرّوح، ولا أن يشغلنا جمال العقل والرّوح عن جمال الشّكل.. وبذلك نحقّق النّظرة الإسلاميّة الّتي تتوازن فيها المادّة مع الروح، والباطن مع الظّاهر، لتكون الحياة بذلك أرقى وأعلى وأجمل.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

لعبة المفاوضات لتهجير الفلسطينيّين

في فلسطينَ المحتلّة، تنكشفُ لعبةُ المفاوضاتِ المباشرة، لتفصحَ عن مخطَّطٍ خطيرٍ يرمي إلى تهجيرِ الفلسطينيّينَ من داخلِ الأراضي الفلسطينيّةِ المحتلّةِ منذُ العام 1948، وهو الأمرُ الّذي دعا إليه وزيرُ خارجيَّةِ العدوِّ (ليبرمان)، فيما تحدَّثَ رئيسُ وزراءِ العدوِّ السَّابقِ عن أنَّ الإدارةَ الأمريكيّةَ كانت وعدَتْ باستيعابِ مئةِ ألفِ لاجئٍ فلسطينيٍّ، ما يوحي بأنَّ مسألةَ حقِّ العودةِ هي من المسائلِ الّتي لا وجودَ لها على طاولةِ المفاوضات، وأنَّ التّوطينَ والتّهجيرَ هما الأساسُ في حركةِ اللّعبةِ الدّوليّةِ، والّتي تدورُ رحاها على أجسادِ الفلسطينيّينَ وحقوقِهم ومستقبلِ أجيالِهم..

ولعلَّ من المخجلِ أنَّه في الوقتِ الّذي يكرّرُ مسؤولو العدوِّ إعلانَهم عن استئنافِ الاستيطانِ، ورفضِ حتّى طرحِ التّجميدِ الشّكليِّ له، يُعلنُ رئيسُ السّلطةِ الفلسطينيّةِ أن لا بديلَ من التّفاوضِ، ويتحدّثُ العربُ على مستوى الأنظمةِ، أو في ساحةِ الجامعةِ العربيَّةِ، عن ضرورةِ إتاحةِ الفرصةِ أكثرَ لعمليَّاتِ التَّفاوضِ الجارية.. والكلُّ يستذكرُ الدَّعواتِ الرَّسميَّةَ العربيَّةَ في عهدِ شارون، والَّتي دعت إلى إعطائِهِ المزيدَ من الفرصِ والوقتِ، وكأنَّ المطلوبَ أن يحظى العدوُّ بكلِّ الفرصِ وكلِّ الوقتِ ليُمعنَ في سياسةِ البطشِ والاعتقالِ، وفي اقتحامِ المسجدِ الأقصى وتدنيسِه، وتجريفِ حقولِ الفلسطينيّينَ وتهديمِ بيوتِهِم ـ كما يحصلُ في الضفّةِ الغربيّةِ والقدسِ في هذه الأيَّامِ ـ بينما يُراد للفلسطينيين أن يلوذوا بالسَّكينةِ تحتَ ضغطِ النّصائحِ العربيّةِ الرّسميَّةِ الّتي تحوّلَتْ إلى سيفٍ مسلطٍ عليهم، وأعطَتِ العدوَّ حجّةً سياسيّةً جديدةً أمامَ العالم، عنوانُها أنَّ العربَ موافقون على كلِّ ما يجري، فلماذا يكونُ الغربُ ملكيّاً أكثرَ من الملك؟!

إنَّنا نشعرُ بخطورةِ ما يجري على السّاحةِ الفلسطينيّةِ، وخصوصاً أنَّ الإدارةَ الأمريكيَّةَ تستعجلُ حلاً، أيَّ حلٍّ لحسابِ مصالحِها وطموحاتِها ومصالحِ العدوِّ، فيما العربَ على مستوى الكثيرِ من الأنظمةِ، يستعجلونَ غسلَ اليدِ من دمِ هذا الصدّيقِ. ولذلك فعلى الأمَّةِ على مستوى الشّعوبِ والطَّلائعِ الواعيةِ وأصحابِ الضّمائرِ الحيّة، أن يتحرّكُوا على جميعِ المستوياتِ لمنعِ المؤامرةِ الكبرى من أن تحقّقَ أهدافَها وغاياتِها في ساحةِ المنطقة، وفي الميدانِ الفلسطينيِّ على وجهِ الخصوص، وأن لا تغيب تحت كل هذا الدخان الذي يُراد له أن يحجب الرؤية عن الخلافات الداخلية والفتن المتنقّلة.

حملة استكباريّة منظّمة على المنطقة

وفي جانبٍ آخر، علينا مراقبةُ ما يجري على مستوى وكالةِ الطَّاقةِ الدَّوليَّةِ الّتي تحوَّلَتْ إلى منبرٍ سياسيٍّ ضدَّ الجمهوريَّةِ الإسلاميَّةِ في إيران، والَّتي فتحَتْ كلَّ مواقعِهَا ومفاعلاتِهَا النّوويَّةِ أمامَ الوكالة، بينما رفضَ كيانُ العدوِّ وضعَ مواقعِهِ النّوويَّةِ العسكريَّةِ تحتَ مراقبةِ الوكالة...

ونحنُ نلاحظُ أنَّه كلَّما أبدت إيرانُ تجاوباً أكثر، وانفتحَتْ على الحوارِ، وتجاوزَتْ بعضَ الشّروطِ، عملَ الأمريكيّون على تعقيدِ الأمورِ أكثر، وفرضِ شروطٍ جديدةٍ، بما قد يفضي إلى تشديدِ الحصارِ أكثرَ على إيران، بحجّةِ عدمِ الوثوقِ بنواياها، بينما رأيْنَا إدارةَ أوباما تحذِّرُ الدّولَ العربيّةَ ـ قبلَ أيّامٍ ـ من أنَّها تخاطرُ بإفشالِ عمليّةِ التّسويةِ إذا واصلَتْ ضغوطَها على الوكالةِ الدّوليّةِ للطّاقةِ الذرّيّةِ لبحثِ البرنامجِ النّوويِّ الصّهيونيِّ.. كما أنَّ ما تتعرّضُ له إيرانُ من تفجيراتٍ آثمةٍ واعتداءاتٍ ظالمة، وآخرُها ما حدثَ في مهاباد، لا يمكنُ فصلُهُ عمَّا تتعرَّضُ له إيرانُ من ضغوطٍ وتهديدات..

إنَّ عليْنا رصدَ ذلك كلِّهِ في إطارِ الحملةِ الدّوليَّةِ المنظّمةِ على المنطقةِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ وعلى مواقعِ الممانعةِ فيها، لأنَّنا نخشى من أن تعملَ محاورُ الاستكبارِ العالميِّ على تحريكِ الفتن، ولا سيّما الفتن المذهبيّة لإشغال تلك القوى بمشاكلها، لتكونَ بديلاً من الاحتلالِ المباشرِ الَّذي تهاوَتْ تجربتُهُ في العراقِ وأفغانستان..

لبنان: لتبديد أجواء التوتر والانفعال

ونعود إلى لبنان الّذي نأملُ أن تكونَ النّفوسُ قد هدأَتْ فيه، بعد جولةِ الانفعالِ الأخيرةِ الّتي جعلَتِ البلدَ يعيشُ على صفيحٍ ساخنٍ من التّصريحاتِ والتّصريحاتِ المضادّة، الّتي لم تخلُ من التّهديد والوعيد، والّتي حاولَ البعضُ من خلالِها أن يُقحمَ الجانبَ المذهبيَّ في الحركةِ السياسيّةِ، ليشحنَ النّفوسَ مجدّداً، أو يثيرَ الحساسيّاتِ في كلِّ الاتّجاهات.

إنَّنا نقولُ للمسؤولين في لبنان: لقد تعب النّاسُ من كلِّ هذا الضَّجيج، وأصبحوا على قناعةٍ تامّةٍ بأنَّ الأفخاخَ الأمنيّةَ والسّياسيّةَ والمذهبيّةَ والطّائفيّةَ الّتي توضعُ هنا وهناك، لن يستفيدَ منها أحد، وستعودُ بالشّرِّ على الجميع...

ولذلك، فإنَّ عليكم أيُّها المسؤولون، ألا تهربوا إلى الأمامِ من خلالِ التّلويحِ بسلاحِ الفتنة، بل أن تتحمَّلوا مسوؤليَّاتِكم في إزالة الإحباط الّذي يعيشه النّاس، والخوف على حاضرهم ومستقبلهم، لتكون الكلمة الطيِّبة والأسلوب الأحسن هما أسلوب التَّخاطب السياسيّ، والسَّبيل إلى معالجة كلِّ القضايا الّتي يُخشَى أن تهدّد أمنه واستقراره من خلال النّظر بمسؤوليّة إلى كلّ ما يُحاك في الخارج مما لا ينبغي النّظر إليه ببراءة، بل بعين الحذر، لأنّنا لا نثق بما يدّعيه الخارج من حرصه على هذا البلد.

أيُّها المسؤولون، عودوا إلى رشدِكم، فلن تَحلَّ مشاحناتُكم المشاكل، بل ستزيدُها تعقيداً، اتّقُوا اللهَ في عبادِهِ وبلادِهِ، فإنّكم مسؤولون حتَّى عن البقاعِ والبهائم..

أيُّها اللّبنانيُّون: كونوا الواعين، حتَّى لا تتحوَّلوا إلى أداةٍ تستخدم من قبل المواقع السياسيَّة لخدمة مصالحهم الذّاتيَّة، أو تحقيقاً لأهدافٍ لا علاقة لكم بها، ولا تجرِّبوا ما جرَّبتموه طويلاً، فالمؤمن لا يُلدَغُ من جحرٍ مرَّتين.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 16 شوّال 1431 هـ الموافق: 24/09/2010 م


ليست هناك تعليقات: