3 سبتمبر 2008

أفتى بحرمة التعرض الجسدي أو التحرش الجنسي أو التعرض بالظلم والاضطهاد للعمال الأجانب في المنازل والمؤسسات
فضل الله: لا يجوز الإخلال بموجبات العقد بين العامل وربّ العمل أو إلزام الخادمة بأن تكون أماً "بديلة"

أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بياناً أفتى فيه بحرمة التعرض الجسدي والظلم والاضطهاد بحق العمال الأجانب في المنازل والمؤسسات، جاء فيه:
إنّ ما يرشح في الإعلام من معلومات وإحصاءات حول أحوال العاملين والعاملات الأجانب في لبنان بخاصة، وفي بلدان العالم الثالث والعالمين العربي والإسلامي بعامة، سواء في المنازل أو في المؤسّسات، يشير إلى خلل اجتماعيّ وتربويّ وقانونيّ وشرعيّ في حركة المجتمع في نظرته وتعاطيه مع هذه الشريحة الإنسانيّة، بما يُدخل المسألة في دائرة الحُرمة الشرعيّة في بعض الأحيان، أو في دائرة الإخلال بموازين التربية في أحيان أخرى، أو في تهديد السلام الداخلي في داخل المنازل والمؤسّسات، ونُؤكّد في ما يأتي على هذه النقاط:
أوّلاً: ثمّة خللٌ إنسانيّ في النظرة إلى هذه الشريحة، ولا سيّما مع اختلاف اللون والعرق؛ حيث نلاحظ أنّ ثمّة نزعة عنصريّة في اعتبار هذه الشرائح من مستوى إنسانيّ ثانٍ أو ثالثٍ، مع أنّ جوهر المسألة هي علاقة تعاقد في العمل على أمورٍ محدّدة يجري الاتّفاق والتوقيع عليها بين طرفين: العامل وربّ العمل. وهذا أمرٌ مرفوض إنسانيّاً ودينيّاً وأخلاقيّاً، ويفرض العمل على تصحيح هذه النظرة بشتّى الوسائل.
ثانياً: دخلت مسألة العمّال في التعقيدات السياسيّة التي تحصل بين بلدٍ وآخر، وقد شهدنا بعضها في لبنان، وأدّت إلى بروز حالات اضطهاد وعنف وتشفٍّ موجّه ضدّ مواطنين هاجروا من أوطانهم طلباً للعيش الكريم، ولم يكن لهم وزرٌ في ذلك إلا أنّهم ينتمون إلى بلد نشب بينه وبين بلد عملهم صراعٌ سياسيّ أو أمنيّ أو ما إلى ذلك. وهذا الأمر إذ يدلّ على تخلّف حضاريّ؛ لأنّ للصراع السياسي أطر علاجه الخاصّة، يدلّ أيضاً على انحدار قيمي وأخلاقي؛ لأنّه ـ كما ورد في القرآن الكريم ـ {لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. وإنّ من شأن هذا المنهج في التعاطي أن يؤسّس لتعاطٍ مقابل من قبل أيّ دولةٍ مع مواطنين دولة أخرى إذا ما دخلت السياسة بينهما في تعقيدات وصراعات.
ثالثاً: ثمّة مؤشّرات كثيرة تتحدّث عن حالات من العنف الجسدي والنفسي، من قبل أرباب العمل والعمّال الأجانب، سواء كانوا في إطار المنازل ـ وهي الحالات الغالبة ـ أو في إطار المؤسّسات؛ وهذا أمرٌ محرّم شرعاً، ومرفوضٌ قانوناً، وعلى الجهات المعنيّة بالإشراف على عمل الأجانب أن تفرض قوانينها بما يمنع ذلك. كما أنّ أرقاماً تتحدّث عن حالاتٍ من التحرّش الجنسي الذي يخضع له العامل الذكر أو العاملة الأنثى من أرباب العمل أو من يتعلّق بهم، ما يفرض وجود قوانين صارمة تتعلّق بخصوصيّة حياة العامل أو العاملة في المنزل أو المؤسّسة، بما يخفّف ـ على الأقلّ ـ من احتمال تعرّضهم لمثل هذه الأمور التي تدخل في نطاق الحرمة الشرعيّة المشدّدة؛ كونها علاقة زنىً في غالب الأحيان.
رابعاً: إنّ ما يجمع العامل بربّ العمل هو عقد العمل بينهما، والذي يوقّع عليه كلا الطرفين، وهو يشتمل على بنودٍ وشروطٍ محدّدة، وبناء على القاعدة الشرعية التي تقول: {يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، ولا تختلف في ذلك عن القاعدة القانونيّة، فإنّه لا يحقّ ولا يجوز لأيّ من الطرفين الإخلال بموجبات العقد، سواء لجهة الراتب، أو الأعباء الإضافيّة التي قد يحاول رب العمل إلزام العامل بها، أو لجهة طبيعة المأكل والمسكن والملبس الذي يلتزم الطرفان بطبيعته، وغير ذلك من الأمور؛ فإذا أريد أن يُضاف أمرٌ فلا بدّ أن يتمّ بالتراضي والاتّفاق بين الطرفين، حين العقد أو بعده.
كما أنّ ثمّة حالةً ينبغي التنبيه عليها؛ وهي أنّ ربّ العمل لا يملك العامل بالعقد، ولذلك لا يحقّ له أن يفسخ العقد من طرفٍ واحد من دون موجبٍ قانونيّ أو شرعيّ للفسخ؛ فما بات يعبّر عنه بـ «بيع» الخادمة أو الخادم إلى عميل آخر من دون موافقته هو أمرٌ محرّم وليس له وجه حقّ، فضلاً عن كونه تعبيراً عن حال غير إنسانيّة في نظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر.
على أنّه لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى مسألة تحوّل العاملة الأجنبية إلى أم بديلة في بعض الأحيان؛ وذلك أنّ هذه المسألة هي من شؤون الأهل في الدرجة الأولى، ولا يجوز التعاطي مع الأولاد كما يُتعاطى مع أثاث المنزل؛ لأنّ ثمّة عاداتٍ وقيماً قد تختلف بين شعبٍ وآخر، كما أنّ مسألة التربية تخضع لعناصر الثقافة التي يملكها الشخص المربّي، فضلاً عن كونه قد يشكل عبئاً على العاملة مما لا يفرضه العقد. وهذا ما يفترض أن يكون لدى الأهل وعيٌ تربويّ لمن يسلّمون أولادهم له، كما يفترض تنظيم أوضاع العمل بما يحافظ على دور الأهل ـ ولا سيّما الأمّ ـ في تربية أبنائها تربية متوازنة.
وأخيراً: إنّ التعاطي غير الإنساني وغير الأخلاقي وغير الشرعي، لا يشكّل خللاً من الناحية الإنسانية والأخلاقية والشرعية فحسب، بل يحمّل صاحب الظلم وزراً فيما لو اتّجهت الضغوط على العامل لتدفعه للإقدام على الانتحار أو العنف في حقّ نفسه أو الغير؛ فإنّ الظُلم من الغير قد يكون أحد محفّزات الظُلم من النفس، عليها أو على الغير؛ وعلينا أن نتّقي الله في هذه النفوس الإنسانيّة؛ لأنّها ـ في شكلٍ وآخر ـ تمثّل أمانةً إنسانيّة وشرعية وقانونيّة؛ والله من وراء القصد.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
التاريخ: 2-9-1429 هـ الموافق: 02/09/2008 م

ليست هناك تعليقات: