5 سبتمبر 2008

فضل الله: لا ضوابط ثابتة لوسائل الاحتجاج

الحوار مع السيد محمد حسين فضل الله، حوار مع نموذج لفقيه يجمع بين الفقه والفكر والحركة... فأنت تحاور فيه كل تلك العقليات مجتمعةً؛ لتخرج بمنتج لا شك يحمل مزيجاً جيداً يستحق الاحتفاء.
عن فقه الاحتجاج... عن وسائله، آلياته، ومآلاته، وكيفية تعامل العقل الشيعي بكل منجزاته الفقهية والفكرية والحركية معه، وكيف نقيِّم حركات التغيير الشيعية التي ارتقت في بعض أحوالها إلى ما أسماه البعض ثورات... عن كلّ ذلك حاورت شبكة (إسلام أون لاين) العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، وهذا نصّ الحوار:
الفقه السياسي والاعتراض
س: في البداية سماحة السيد: هل هناك مناهج استدلالية خاصة بالفقه السياسي تختلف عن مناهج الاستدلال والاستنباط المعروفة عند الأصوليين في العمليات الشرعية والإفتائية؟
ج: يخضع الفقه السياسي في مناهج الاستدلال لما يخضع له الفقه العام، ولكن ثمة مشكلة لا تزال موضع اهتمام، وهي في الطابع الفردي الذي يغلب على عملية استنباط الأحكام الشرعية؛ بحيث لا يُنظر إلى المواضيع ذات الأبعاد العامة والاجتماعية خلال عملية الاستنباط، ما قد يبتعد بالفقيه عن الاستنباط الملائم لطبيعة التطور الذي لحق بالعمل السياسي وغيره.
س: عرف العصر النبوي والراشدي بعض الحوادث الفردية والتي يمكن تصنيفها في إطار الاحتجاج أو الاعتراض، بصرف النظر عن مضمونها... فهل من المنطقي أن نتساءل كيف كان الصحابة يمارسون فقه الاعتراض أو السؤال؟ بمعنى: هل كانت أدبيات الاعتراض تتحرّك في عهد الرسول(ص) أو الخلافة داخل فقه معين تعلمه الصحابة من خلال تلك الحوادث التاريخية؟
ج: ثمة قواعد عامة تحكم العمل العام، ومنه العمل السياسي والمعارضة، وأهمها مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى، والنصيحة، والتي تقوم جميعها على الحرية الفردية في إبداء الرأي بما لا يؤدي إلى اختلال النظام العام للمجتمع، حتى إن بعض الروايات تتحدث عن الاعتراض الذي كان يواجهه النبي(ص) في تقسيم الغنائم، من دون أن يُواجه هذا الاعتراض بالقمع، بل بالإشارة إلى مكمن الخلل فيه، ولاسيما أن هذا العمل السياسي في الإسلام، لا يتحرك في أفق مختلف عن الأفق الذي تتحرّك فيه الدعوة الإسلامية؛ بل إنّ دور العمل السياسي هو النهوض بالمجتمع وبالفرد على حد سواء، فلا يغيب الفرد وحاجاته الروحية والتربوية والمادية في حاجات الأمة، بل يكون دور القائد ـ في سلوكه مع القاعدة ـ هو دور الحاكم والمربي معاً.
ونحن نلمح بعضاً من ذلك، مما روي عن الإمام علي(ع)، إذ قال: «فلا تكلموني بما تكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا مني بما يُتحفَّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي؛ فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل؛ فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني؛ فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره». [نهج البلاغة:ج2، خ:216].

بين الفقهين... السني والشيعي
س: هل يرى سماحة السيد فضل الله فروقاً بين الفقه الشيعي والفقه السني في آليات التأطير لما يسمى الفقه السياسي والتبعية للفتاوى السياسية، أم أن هناك فخوخاً مشتركةً قد وقع فيها كلا الفقهين على هذا المستوى؟
ج: الفروق قد تكون من خلال بعض الآليات التي يؤمن بها فريق ويراها حجةً ولا يراها الفريق الآخر كذلك، مع ملاحظةٍ مهمة، وهي أن الجانب السياسي ليس كالجانب العبادي الذي هو توقيفي حتى في تفاصيله، بينما يخضع عالم المعاملات، ومنه الشأن السياسي، لقواعد عامة مبيَّنة في القرآن الكريم بشكل كبير، وتبقى الوسائل تتحرك تبعاً لتطور وسائل الحياة عموماً، ما يفسح في المجال للالتقاء في تحديد الأطر والقواعد الإسلامية في شكلٍ تفصيلي متفق عليه بين السنة والشيعة وغيرهم بشكلٍ عام.
نعم، قد تبدو ثمّة مشكلة، وهي ما حفلت به المرويات المبتدعة في زمان الحُكم السياسي الجائر تاريخياً؛ بحيث كان يُلتمس الحديث الموضوع لأجل تثبيت الحُكم وإضفاء شرعية ما عليه، وهذا ما يحتاج إلى دراسة معمقة ضمن منهجٍ علمي يرد الفروع إلى الأصول، بحيث يكون ذلك ميزاناً يُحكم به على صحة الحديث، وقد ورد إلينا من هذه القواعد العرض على القرآن، ويروى في هذا المجال ما جاء عن الرسول(ص): «ما خالف كتاب الله فهو زخرف».
س: ما الفرق بين خطابات "الفتنة" و"المعارضة" و"البدعة" و"الردة" في التاريخ الإسلامي؟ بمعنى: هل استطاع الفقه الإسلامي بكل مذاهبه وتياراته أن يحدد ملامح واضحة لكل لون من تلك الألوان، أم أن التبعية السياسية للمرجعيات الفقهية المختلفة كانت تتغلب على الفقه بمعناه التقني؟
ج: من الطبيعي أن الضبابية التي تحكم آليات العمل السياسي، أو تبني فكرة توقيفيتها على الأنماط التي كان يستخدمها السلف، من دون الانفتاح على تطورات الوسائل في العمل السياسي على مدى الأزمان والعصور، سوف تلقي بثقلها على هذه المفاهيم؛ بحيث يكون الخروج عن السائد ـ مثلاً ـ فتنةً، أو ردةً، ويكون القول المخالف بدعةً، حتى لو استند إلى أدلة اجتهادية.
إن ثمة مفاهيم واضحة في القرآن الكريم والسنة الشريفة تحكم العمل العام، وهذه المفاهيم لا بد من أن تحدِّد تجليات هذه المصطلحات التي يذكرها السؤال، فلا تبقى في إطار التجريد، وإنما توضح معالمها الواقعية، وتكون قابلةً للقياس والملاحظة في عالم الواقع.
فعندنا أنه لا يجوز اختلال النظام، أما التغيير في إطار المحافظة على النظام العام للأمة، فليس هناك ما يمنع منه إذا أخذ بالموازين الشرعية والقيم الإسلامية، وعندئذٍ لا يُمكن تسمية الخروج على الحاكم ـ مثلاً ـ فتنةً، كما أن البحث في صيغ أخرى للنظام الإسلامي لا يسمّى ردّةً إذا ما استند إلى القواعد العامة في تحديد رأي الإسلام في ذلك، كما أن الاجتهاد في إطار القواعد العامة للاستنباط لا يسمى بدعةً.
إن هذه المفاهيم ليست هي المفاهيم الأم، وإرجاعها إلى المفاهيم التي تمثل القواعد الأساسية للسلوك الإنساني، الخاص والعام، من شأنه أن يوضحها بما يرفع عنها حال الغموض والالتباس في عالم التطبيق.

الطغيان السياسي
س: هناك نظريتان فقهيتان لمبدأ الطغيان السياسي؛ إحداهما قوامها العدل، وعندما فشلت حلت الثانية وهي نظرية الأمن، وعلى أساسها، ظل المسلمون يعيشون آلاف السنين في كنف مقولات من قبيل: "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم". فهل نستطيع القول بأن برنارد لويس كان على حق عندما قال إن الثقافة الإسلامية بكل مفرداتها لم تؤسس بحق لمكافحة الطغيان؟
ج: المشكلة هي أن المقاربة الاجتهادية للعمل السياسي الإسلامي عموماً، بدءاً من تجربة العهد النبوي، إلى ما بعده، ووصولاً إلى التجربة الحديثة، بقيت محتكمةً إلى أنماط محددة من المسميات التي حصرت في آليات احتكمت إليها تجربة العمل السياسي في زمان النبوة، أو الخلافة، أو ما إلى ذلك، من دون أن تُقرأ هذه التجارب ضمن ظروف المرحلة الزمنية، بحيث تُرى بعض العناوين العامة ضمن أطرها الإسلامية العامة على مستوى القواعد والمفاهيم التي تحكم العمل السياسي، مما يُفسح في المجال لإنتاج رؤية إسلامية جديدة تنفتح على متغيرات وتطورات العصر في الممارسة السياسية والأنظمة، بما يرتكز إلى القواعد العامة، ويأخذ بالعناوين في إطارها المتحرك.
وهذا ما يُبعدنا عن مقولات نعتبرها ثابتةً، وهي ترتكز في إطارها على عاملٍ واحد في الغالب، حتى إذا ثبت فشلها، لجأ البعض إلى مثل هذه المقولات التي يذكرها السؤال، بينما نجد أن المسألة السياسية والاجتماعية في الإسلام هي مسألة متداخلة تتركب من عناصر عديدة، وتؤثر فيها عوامل متنوعة؛ بحيث نجد فيها العدل والأمن والأخلاق وغيرها من الأمور التي تتحرك وفق منظومة على العقل الاجتهادي أن يبتدعها ويجتهد فيها، بما يحفظ الاستمرار للقيم الإسلامية في حركة المجتمع والفرد على حدٍّ سواء.
مشروعية الاحتجاج ومقاطعة الحاكم
س: سماحة السيد... وقع الفقه السني في تضارب حول ممارسات هذا الاحتجاج؛ ففي حين يرى فريق حرمة المظاهرات، يرى آخرون جوازها، وفي حين يرى فريق المقاطعة السياسية إثماً، لأنها كتمان شهادة، يرى آخر أنها أسلوب شرعي لإبداء الاعتراض. وربما كان الدليل لدى الفريقين واحداً في بعض الأحوال، والخلاف في التأويل والفهم. فكيف تعامل الفقه الشيعي مع فتاوى المظاهرات والإضرابات والاعتصامات؟
ج: أشرنا فيما سبق إلى أن مسألة الآليات لا بد من أن تخضع للدراسة الموضوعية الدقيقة، من حيث تحقيقها المصالح العليا للمسلمين، ودفعها المفاسد الكُبرى عنهم.
ومن هنا، لا يُمكن ـ ما دمنا نتحدث عن منظومة إسلامية تخضع لقواعد واضحة في القرآن والسنة ـ إعطاء ضابط ثابت لهذا الأسلوب أو ذاك، سواء في التحليل أو التحريم؛ فقد تكون المظاهرات واجبةً إذا ما كانت تتحرك لتأكيد قيم العدالة، وتؤدي في النتيجة إلى تحقق العدل، وقد تكون المقاطعة السياسية مشكلةً للخطِّ السياسي الإسلامي؛ بحيث تكون المقاطعة أشبه بالعزلة له في مرحلةٍ معينة، وقد تكون هي الأسلوب المفيد في مرحلة أخرى... وهكذا.
ولذلك نرى أنّه لا بد من إرجاع أي من هذه القضايا إلى الأصول العامة والمفاهيم الأصيلة، وعدم إضاعة طريق العمل السياسي في مفردات يُراد لها أن تأخذ أحكاماً ثابتةً، وربما توقع العمل السياسي بالرتابة أحياناً، ويمكن في أحيان أخرى أن تدخله في سذاجة غير متناهية.
ثوراتٌ شيعية
س: الفقيه المسلَّح... مصطلح ربما لم يعد له أثرٌ بعد ثورة الحسين وابن الأشعث وغيرهما. فبوصفكم مرجعيةً إسلاميةً شيعيةً، كيف تقيِّمون على المستوى الفقهي والسياسي أيضاً، حركة الإمام الحسين(ع) واحتجاجه وخروجه، في ظل وجود من يقول مثلاً: "ليت الحسين ما خرج"؟ وهل من مفاضلة على المستوى الفقهي بين ما فعله هو، وما فعله أخوه الحسن مع معاوية؟
ج: عندما ندرس المنطلقات التي تحرّك الإمام الحسين(ع) على أساسها، فإننا نجدها تنطلق من أساسين اثنين:
الأول: وهو أساس الإصلاح الذي يتحرك ضمنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك عندما قال(ع): «ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...»، أو عندما قال: «أيها الناس، إن رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله».
الثاني: هو أنّ ثمة انحداراً خطيراً في عالم القيم أصاب بنية المجتمع آنذاك، بحيث تحوّل كثيراً عما كان عليه مرحلة الخلافة الراشدة، من نقاش وجدل، وكان تنازل الحسين(ع) بالبيعة يهدد البنية الفكرية والثقافية الإسلامية العامة للواقع الإسلامي؛ لأن ما رواه الفريقان عن النبي(ص) في حديثه لأصحابه، قوله(ص): «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ قيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ قيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟»، هذا الحديث يؤكد أن تنازل المجتمع عن ضبط سلوك الحاكم وغيره، سوف يؤدي إلى انقلاب الموازين والمفاهيم، وعندئذٍ يدخل المجتمع في انحراف «شرعي»، ولا يجدون حاجةً إلى تغييره، بل يجدون كل من هو خارج عنه غير شرعي.
ولذلك، فإن حركة الإمام الحسين(ع) التي انطلقت من شعارات الإسلام، ينبغي أن تخضع لدراسة دقيقة، وأن لا تُدخل في إطار التجاذب المذهبي الذي يرصد المسألة على أساس مسلمات هي ليست بالمسلمات مما يحكم الفقه السياسي في أكثر من مجال.
أما مسألة صُلح الإمام الحسن(ع)، فإن تحليل ظروفه وحيثياته لا يجعله خارج إطار حماية الوضع الإسلامي العام، سواء في خطّه الفكري، أو في خطه الحركي؛ إذ إن الانشقاقات التي حصلت في جيش الإمام الحسن(ع) على أثر تداعيات معركة صفين، والتي كان منها بروز تيار الخوارج، مع ما رافقه من ضبابية في الرؤية الإسلامية تجاه القواعد الإسلامية التي تحكم حركة التقييم والموقف، وغير ذلك، جعل من الاستمرار في المعركة أمراً خطيراً في تداعياته على واقع الإسلام والمسلمين.
هذا مع ملاحظة مهمة؛ وهي أن مرحلة يزيد، تختلف عن المرحلة التي فرضت صُلح الحسن، ما يجعل الصُلح في مرحلة يزيد يأتي بتداعيات خطيرة على الواقع العام للإسلام والمسلمين، كما أشرنا سابقاً.
وعلى أساس ذلك، نعتقد أنه ليس ثمة خط ثابت في حركة الإمام الحسن(ع) نحو الأخذ بالصُلح، أو خطٌ ثابت في حركة الإمام الحسين(ع) نحو الأخذ بالشدة والعنف، بل هناك خط إسلامي يرتكز إلى قواعد ثابتة تحكم خيار الحركة تبعاً للظروف الموضوعية التي تحمي الواقع الإسلامي من الخطر والانحراف.
وعلى هذا الأساس، نستطيع أن ندرس أيضاً حركة الإمام علي(ع) عندما كان معارضاً للخلفاء الذين تقدموه، ثم عندما رأى التحديات والمخاطر تحدق بالإسلام والمسلمين، تحرك لإعطاء النصيحة والمشورة، وتحرك بروح إيجابية تجاه الواقع؛ حمايةً للإسلام وللمسلمين، وليس ذلك إلا لأن الواقع ـ في متغيراته وطوارئه ـ يفرض موقفاً في حالة، وموقفاً آخر في حالة أخرى؛ بحيث يكون أخذ موقفٍ واحد في الحالتين أمراً غير منسجم مع القواعد الإسلامية التي ينبغي أن تحكم حركة السياسة والموقف.
س: لكن سماحة السيد، هناك اتجاه شيعي رافض لكل أشكال الثورة التي قام بها بعض من آل البيت؛ لأنها ـ بحسبه ـ مخالفة لتعاليم أئمة آل البيت الإثني عشر المعصومين، فثورة زيد بن علي، مثلاً، لم يوافق عليها الإمام جعفر الصادق(ع)، وهو من هو علماً وفقهاً، وكذلك ثورة يحيى بن زيد 125هـ أيضاً، والتي انتهت نهايةً مأساويةً. فهل تعتقدون وفقاً لذلك بانعدام المرجعية الفقهية الشيعية التي تسوِّغ مثل تلك الحركات؟
ج: ثمة فرقٌ بين رفض الأسلوب، لأن ظروف المرحلة لا تنفتح على إمكانية التأثير الكبير، وبين رفض الفكرة من أساسها؛ وإلا فماذا نصنع بثورة الحسين(ع) في نظر أئمة أهل البيت(ع) المتأخِّرين عنه؟! إضافةً إلى أن مسألة الرفض المطلق لتلك الثورات من قبل الأئمة المعاصرين لها هي مسألة خاضعة للمناقشة، وهي محل جدل.

مفهوم المعارضة
س: هل عرف تاريخ الثقافة الإسلامية فكرة المعارضة بالمعنى المعروف والمتداول لمفهوم المعارضة؟ وإذا كانت ثمة معارضة عرفناها في ثقافتنا، فما هي الفروق والدلالات بينها وبين المعارضة في الثقافات الأخرى؟
ج: لا إشكال في أن لكل عصر أدواته في إظهار الرأي وفي الحركة السياسية، وإذا درسنا ما كان يتحرك به المسلمون في عهد النبي(ص) وما بعده، لوجدنا أن ثمة معارضةً كانت تتحرك بالنصيحة تارةً، وبالموقف أخرى، وبعنف الكلمة ثالثةً، وبالثورة رابعةً...
ونحن نرى، أن أي نظام إسلامي لا بد من أن يؤمِّن للمعارضة أطرها النظامية، بما يفسح في المجال لحركة الأمة في تصويب النظام بما يحقق المصالح العامة للأمة وللمجتمع، وبما يبعد الحاكم عن الاستبداد في حكمه، أو الانحراف في سلوكه.
س: "الخروج"، و"الصبر"، "والتمكين"، مبادئ كفاحية سياسية قديمة، فهل ترى سماحتكم أن تلك المبادئ تمكّنت في إرساء معايير لمنهجية الاحتجاج والغضب السياسي عند المسلمين؟
ج: أشرنا فيما سبق إلى أن لكل ظرفٍ مقتضياته على صعيد الموقف والحركة والأسلوب، ونحن نرى أن في هذه العناوين إشارةً إلى أساليب طُبِّقت في ظروفٍ قد لا تكون ملائمةً لظروف أخرى، فضلا عن أنه لابد من دراسة جدواها ضمن ظروفها الخاصة.

المعارضة جزء من الحركة
س: الخوارج خرجوا لأجل أن يكون "الحكم لله"، والمعتزلة من أجل "العدل"، والإمامية من أجل "الغائب"، وكافة الفرق السنية مارست نضالها داخل منظومة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... اللافت أن كل هؤلاء لم يطلبوا السلطة لأنفسهم أو تبادل الأدوار من خلالها، فيما عدا الإمامية التي كان لها برنامج حكم.. فأيٌ من هذه الألوان تعتبرها معارضةً؟
ج: ليست المسألة بالنحو الذي يذكره السؤال، ولاسيما بالنسبة إلى الإمامية الذين لم يخرجوا لأجل الغائب، وإنما تحركوا على أساس المفردات الإسلامية التي رأوها غابت عن حركة الحكم الإسلامي في العهدين الأموي والعباسي وغيرهما، وكانت مسألة غيبة الإمام الثاني عشر من العوامل التي زادت من الانحراف الذي أصاب الحكم الإسلامي، وتحول من خلاله إلى حركةٍ في الظلم والبطش والقتل والتعذيب والتشريد وما إلى ذلك.
وعلى كل حال، فنحن لا نفهم المعارضة إلا جزءاً من الحركة الإسلامية التي تقف الموقف الإسلامي في الحُكم، أو خارجه عندما لا يتحرك الحُكم في خط الاستقامة، ونحن في هذا المجال نؤكِّد الموقف الذي وقفه علي(ع) في مسألة الخلافة؛ حيث قال: «فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدين وتنهنه»، وفي ولاية عثمان كان يقول: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصة»، حيث نجد المرونة السياسية في اتخاذ الموقف بما يحفظ الإسلام والمسلمين، ويحرك المعارضة عندما لا تؤدي إلى الخلل في إضعاف الإسلام والمسلمين.
س: الحاكم لدينا إمام يقدمنا ويفضلنا، ويصلي بنا وولي أمرنا، ويجمعنا ويفرِّقنا، وريث الخلافة وتراث النبوة... حتى مع الدولة القومية، خلعنا على الحكام عباءة المقتدر بالله بكلِّ امتيازاته، ولم نطلب منه واجباته، حتى صار الفقه الإسلامي في بعضه، بمشاركة الفقهاء، أداة من أدوات الكبت. فهل من الضروري الآن تحرير مفهوم الحكم قديماً وحديثاً؟ وإذا كان الحاكم حاز تلك القداسات، فماذا تبقى لمخالفيه؟ ألا يشير ذلك إلى اعوجاجٍ في منطق توزيع الفضائل السياسية؟
ج: القداسة تنشأ بفعل العصبية، وبفعل سقوط الشخصية الإسلامية الفاعلة للأمة أمام قضاياها ومصالحها الكُبرى؛ بحيث تخضع للحاكم حتى لو كان جائراً، وتغدق عليه المدح والثناء حتى لو كان منحرفاً، وتتبعه حتى لو تناقضت قيمه مع قيم الأمة والإسلام. ولذلك فالمطلوب إعادة تقويم نظرة الأمة إلى نفسها وموقعها، وإلى طبيعة الحكم التي لم تكن إلا وظيفةً متقدِّمةً يعهد فيها المجتمع إلى بعض أفراده ليحققوا مصالحه، التي لا بد من أن تكون مصالح الإسلام، فإذا انحرف أو اعوجَّ، فعلى الأمة أن تقوِّمه.
س: هل يصح أن يكون لدينا مفهوم مبلور للمعارضة في الثقافة الإسلامية ولا يكون لدينا ديمقراطية تضبط صراعنا وتحيله إلى المجال السياسي؟
ج: إنّ في أدبياتنا ومفاهيمنا الإسلامية الكثير من القواعد التي يُمكنها أن تؤسس لنظام إسلامي يحقق المعارضة في إطار الشورى وفي إطار الإصلاح، ولسنا في حاجة لاستخدام بعض المصطلحات الحديثة التي لها مفهوم قد يرتكز إلى قواعد فكرية مغايرة لما ترتكز عليه الرؤية الإسلامية.
ونحن نؤكد أهمية دراسة تجربة الإمام علي(ع) في المعارضة وفي الحكم؛ حيث أشرنا فيما سبق إلى الركائز التي كانت تحكم اتخاذ الموقف المعارض وطبيعته، ونستطيع أن نشير في تجربة الحُكم إلى تعاطيه مع الخوارج كمعارضين له ولسياسته، بل كمعارضين له حتى على المستوى العقيدي. وقد كان من كلماته لهم عندما كفَّروه: «فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة أمة محمد(ص) بضلالي، وتأخذونهم بخطئي، وتكفِّرونهم بذنوبي؟!».
إن الإمام علياً(ع) لم يقاتل الخوارج على أفكارهم، وإنما حاورهم، فلما قطعوا الطريق وقتلوا النفس المحرمة، وأساءوا إلى النظام العام للأمة، حاربهم ليُعيدهم إلى رشدهم في عدم الاعتداء والإفساد، وقد قال في حقهم: «لا تقتلوا [وفي نص لا تقاتلوا] الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه»؛ وكأنه يشير بذلك إلى أن اختلاف الرأي لا يبعث على التكفير واستحلال الدم، بل يتحرك ضمن آليات الحوار العلمي المستند إلى قواعد الكتاب والسنة، وأن حركة العنف والقتال تفرضها قواعد أخرى، لها علاقة بالإخلال بالنظام العام للأمة من خلال العدوان والقتل والإفساد، مما بيَّنه الكتاب وبيَّنته السنة في مجالها.
س: في النهاية سماحة السيد، كيف ترى أفق الاحتجاج في الإسلام؟ بمعنى: موقع العنف في ممارسة العملية الاحتجاجية، هل تسمحون بوجوده، أم تقيِّدونه بحالاتٍ دون غيرها؟ وما تعليلكم لذلك على المستوى الفقهي لا السياسي؟
ج: ذكرنا أن الوسائل تخضع للدراسة العميقة على مستوى تأثيرها وجدواها وانعكاساتها العامة على الإسلام، في المدى القصير والطويل، وإن كان المنهج الإسلامي العام يعتبر الرفق أولى من العنف؛ حيث نروي عن رسول الله(ص) أنه قال: «إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولم يرفع عنه قطّ إلا شانه»، وقال أيضاً: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»، فقد يكون العنف جزءاً من حركةٍ تفرضها طبيعة عملية التغيير، وتتحرك ضمن ضوابط لا تؤدي إلى الفساد في واقع الأمة، وهي حالة استثنائية، بحيث لا تشكِّل قاعدة عامة في الحركة، والله العالم بحقائق الأمور، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.

حوار ـ إسلام عبد العزيز وعبد الله الطحاوي

ليست هناك تعليقات: