23 نوفمبر 2008

الدكتور الشيخ أحمد الوائلي:
منهج جديد في إغناء المنبر الحسيني وتأكيد الوعي الرسالي


كلمة سماحة المرجع الديني، السيد محمد حسين فضل الله، في ذكرى غياب الراحل الكبير العلاّمة الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله)


في مواجهة التخلف:
كانت حركة الحوزة في مدينة النجف الأشرف تنفتح على التجديد في الشكل والمضمون لمواكبة التطوّرات المعاصرة في أسلوب الدراسة والتربية للنشء الجديد، وكان يقود هذا الاتّجاه فريق متقدّم في العلم والخبرة والوعي والجرأة.
و كان في مقدّم هؤلاء، العلاّمة الكبير الشيخ محمد رضا المظفّر والطليعة المباركة من إخوانه، ممّن كانوا يعيشون حركية الانفتاح على متطلّبات العصر وأساليبه في تثقيف الناس، فكانت جمعية "منتدى النشر" التي كانت تستهدف نشر التراث، والتي تحوّلت نشاطاتها إلى تأسيس مدرسةٍ تتماشى مع الأساليب الحديثة في التعليم، ما جعل منهجها يجمع العلوم العصريّة والدينية والتربية الأخلاقيّة، وقد أدّت دوراً كبيراً عندما حرّرت أساليب التعليم من سيطرة الكتاتيب.
وقد انطلقت هذه المجموعة العلمية في نطاق الجمعية لتقوم بثورة ثقافيّة كبيرة في مواجهة التخلّف في الخطابة التي يمارسها قرّاء العزاء في إثارة الذكرى الحسينيّة، والتي كانوا يستهدفون منها إثارة العاطفة وإسالة الدموع ولطم الصدور فقط؛ الأمر الذي لا يحقّق أيّة ثقافة في أهداف حركة الإمام الحسين(ع) الإصلاحيّة التغييريّة، وهو ما كان يؤدّي إلى الجمود الفكري في الوسائل الاستهلاكيّة، لولا وجود بعض الخطباء الكبار الذين كانوا يتميّزون بالمعرفة الأدبيّة والتاريخية والشرعية، على الرغم من أنّهم كانوا يمثّلون قلّةً قليلةً لم تصل إلى مستوى الظاهرة.
وانطلقت الجمعية في الدعوة إلى التجديد في أساليب الذكرى، ليتحوّل المنبر الحسيني إلى مدرسة ثقافيّة تنفتح على أهداف الثورة وتنوّعات الثقافة التفسيريّة والتاريخية والأدبيّة لها، فما كان من الرافضين للتجديد إلا إعلان الثورة التي ربّما وصلت بالبعض منهم إلى اتّهام القائمين بحركة التجديد بالضلال والتخطيط لتهديم مجالس العزاء.
وعاشت النجف في تلك المرحلة أزمة شديدة التعقيد، بين مؤيّد ومعارض؛ ولكن هذه الحركة استطاعت أن تقدّم نماذج مثقّفة منفتحة على العصر وعلى أساليبه، مع الالتزام بالحقيقة في مقابل الخرافة، والتقدّم في مقابل التخلّف، والاعتدال العاقل في مقابل التطرّف الجاهل.
وكان في مقدّم هؤلاء، فقيدنا الدكتور الشيخ أحمد الوائلي، الذي رأى فيه الناس في أكثر من منطقة، ولاسيّما في مجالس بغداد، نموذجاً جديداً يتميّز بالانفتاح الثقافي الذي يتحوّل فيه المنبر إلى مدرسة متحرّكة يتعلّم فيها الناس التفسير القرآني في امتداداته المعرفيّة الفكريّة والروحيّة، كأسلوبٍ جديد لم يتعوّد الناس أن يسمعوه في مثل هذه المجالس، إضافةً إلى أسلوب التحليل التاريخي الذي يتميّز بالدراسة الدقيقة للأحداث، مع إطلالة على بعض معطيات العصر الحديث التي قد تكون شاهداً على الحقائق الإسلاميّة في العقيدة والالتزام، مع التحدّث عن المأساة في قضايا عاشوراء بعيداً من المبالغة ومن استخدام الروايات غير الموثوقة مما قد يسيء إلى الذكرى.


إغناء المنبر الحسيني:
وهكذا استطاع الشيخ الوائلي أن يفتتح منهجاً جديداً في إغناء المنبر الحسيني، ليكون متحرّكاً بالثقافة المتنوّعة، وليجمع مختلف الطبقات من المثقّفين وغيرهم، ومن أتباع المذاهب والأديان الأخرى، ما فتح لقضيّة عاشوراء أفقاً رحباً ومجتمعاً جديداً، واستطاع الإيحاء إلى بعض الخطباء الناشئين بالاقتداء به في أسلوبه الحضاري.
وربّما واجه هذا الخطيب المجدّد، كما واجهت الطليعة الإسلاميّة الرساليّة والمثقّفون، مشكلة التراجع لدى القائمين على شؤون المنبر الحسيني، إقامةً وقراءةً، بالارتداد إلى الوراء، واستغلال الناس بإثارة الخرافات والأكاذيب، واستغلال الأصوات المثيرة للبكاء فقط لاجتذاب الناس على حساب الخطباء الطليعيّين. حتى أصبح الكثيرون من أولئك هم الذين يتولّون تثقيف الناس بعقائدهم وأوضاعهم، في الوقت الذي لم يكونوا يملكون علماً ينفتح بهم على الحقيقة.
وقد كان خطيبنا الراحل (رحمه الله) يتألّم من ذلك كلّه؛ لأنّه كان يرى أنّ الحركة التصحيحية والتغييريّة بدأت بالانحسار في كثير من الأوساط الشعبيّة التي ترى أنّ العادات التي أدمنها الناس في التعبير عن انفعالهم بالمأساة العاشورائيّة قد أصبحت من المقدّسات، حتى إنّ البعض في الحوزة وخارجها، كان يرى أنها من الشعائر التي الوسيلة الوحيدة لارتباط الناس بأهل البيت (عليهم السلام)، مع أنّ كثيراً منها لا ينسجم مع أبسط القواعد الشرعيّة، فضلاً عن الجانب الحضاري للإسلام، إذ إن الكثير منها كان يتحرّك في خطّ تشويه القيم الإسلاميّة بدلاً من أن يشكّل حركةً في رفع مستوى الوعي وحيويّة الوجدان الإسلامي الذي أراد الإمام الحسين(ع) تأكيده في نفوس الأمّة في زمانه وفي حركة الزمن كلّه.


تأكيد خط الوعي:
لقد كان فقيدنا الخطيب المجدّد أديباً في المستوى الرفيع من الثقافة الأدبيّة، وشاعراً مبدعاً في قصائده التي تنوّعت في مختلف قضايا الأمّة المصيريّة، وفي أوضاعها الاجتماعيّة والسياسيّة، وفي مدائح أهل البيت(ع) ومراثيهم بطريقة جديدة في مضمونها الإيماني والحركي والولائي، وكان مؤلّفاً في أكثر من موضوع اجتماعيّ وديني وحركي، فكان مالئ الدنيا وشاغل الناس، وكان الإسلاميّ الحركي الذي واكب الحركة الإسلاميّة وأيّدها وشارك في دعمها وتأييد قياداتها، ما جعل من فقده خسارةً كُبرى للإسلام والمسلمين.
وأخيراً، فإنّني أحيّي القائمين على إقامة هذا الاحتفال المبارك، وأقدّر جهود العاملين عليه، وأرجو أن يكون قاعدةً وانطلاقةً في سبيل تأكيد خطّ الوعي الرسالي المنفتح الذي كان ينادي به المرحوم الشيخ الوائلي ويتحرّك فيه، ويتكبّد في سبيله المصاعب والمشاقّ؛ فإنّ ذلك هو الذي يؤكّد كلّ القيم الإسلاميّة التي تحرّك فيها أهل البيت(ع) على خطى جدّهم رسول الله(ص)؛ ليكون الإسلام حيّاً وفاعلاً في صناعة الشخصيّة الإيمانيّة الرائدة، وليكون قاعدةً تحكم خطوط الحركة في كلّ ميادين الحياة.

ليست هناك تعليقات: