4 أكتوبر 2010

على حافّة نهاية الشهر

وتنقضي أيّام شهر رمضان، وتتصرّم لياليه، ويقف الإنسانُ حائراً أمام مساره ومصيره، في لحظةٍ يشتبك فيها التاريخ المليء بالبُعد عن الله والإخلاد إلى الأرض، الذي كان التضييع والتفريط عنوان التقصير فيه، مع المستقبل الذي لا يدري ما سيصنع فيه، وإلى أيّ مدىً لن يضيع في غمرة الحياة..

ولكنّ الشهر إذا انقضى زمناً، وتصرّم أمداً، فإنّ الأجواء الروحيّة التي عشناها بين الحين والآخر، ينبغي أن تكون زخماً نتحرّك فيه في قادم الأيّام، لكي نمدّ جوّ هذا الشهر المبارك إلى غيره من الشهور، فلا تتوقّف ألسنتنا عن الدعاء لحظةً، ولا تكلّ أرواحنا عن المناجاة لساعة، وتبقى تلاوة كتاب الله تملأ أجواء البيوت، في ساعات الصلوات التي ينبغي أن نحافظ عليها أكثر..

وأمّا الروح الأخلاقيّة التي غلّفها شهر رمضان بغلافه الروحي، وبالبركات الإلهيّة، فإنّها للحياة كلّها، في مدى الزمن كلّه، فإذا وصلنا أرحامنا في شهر رمضان فلا نقطعها في غيره من الشهور، وإذا خفّفنا فيه عمّن هم تحت سلطتنا، فلا ينبغي أن نثقل عليهم في الآتي من الأيّام، وإذا حسنت أخلاقنا فيه فلا ينبغي أن تسوء في مستقبل الشهور..

هكذا نكون قد خطّينا في شهر رمضان شهادة فوزنا؛ لأنّ الفوز فيه، والنجاح في تحقيق أهدافه، ليست مقصورة على الزمن الذي يحتوي الشهر المبارك، بل الدليل عليه يتّضح في المدى الذي حقّق فيه شهر رمضان من زيادة منسوب الوعي في الفكر، والسموّ في الروح، وتجسيد القيم الأخلاقيّة في حياتنا، مع أنفسنا ومن هم حولنا، وفي مدى ازدياد حسّ المسؤوليّة عن المجتمع والأمّة، في كلّ قضاياها..

عندما كثّف الله الزمن من خلال حجم الروح الذي أفاضه في شهر رمضان، وفي ليلة القدر بالذات، فلأنّه يريد أن يقول للإنسان إنّ عليك أن تبسط هذه الكثافة، في نوعية العبادة، وروحيّة التفكّر، وحسّ المسؤوليّة، على السنة الآتية إلى رمضان القادم، لتكون البركة التي أفاضها الله فيه بركةً تنبع من عمق النفس التي تدرّبت في شهر رمضان على أن تعيش معنى البركة في نفسها، لا أن تحسّ البركة شيئاً معلّقاً في الفضاء، لا يتمظهر في شعور، ولا يتجسّد في سلوك..

وعندئذٍ سيكون الزمن كلّه منصتاً لتسابيح أنفاسنا، ويُصبح النوم في كلّ زمان عبادةً، وتُفتّح آذان السماء إلى أدعيتنا، ويكون القبول هو نتيجة أعمالنا التي تصعد إلى الله بلا حواجز ولا عوائق.. وعندئذٍ ستبقى الشياطين مغلولة، وأبواب الجنان مفتّحة، وأبواب النيران مغلّقة؛ ليكون رمضان روح الشهور كلّها، وليكون الله تعالى في عمق الفكر، وفي قلب الروح، وفيضاً يحرّك الحياة..

ولكن.. تبقى النفس حيرى؛ هل بلغنا معشار ذلك؟ أم أنّنا لا زلنا في دروب الغواية، وفي متاهات الضلال، وفي مدى التضييع لأعمارنا التي تسير عجلى نحو خاتمتها، حيث يقف الإمام أمام ما قدّمت يداه، وأسلفت أعماله، وحيث لا رجوع للزمن، ولا عودة للحياة؛ (هنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت ورُدّوا إلى الله مولاهم الحقّ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون)؛ والله من وراء القصد.

السيد جعفر فضل الله


ليست هناك تعليقات: