13 أكتوبر 2010


بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:


الخطبة الأولى


الإصلاح بين النّاس: واجبٌ ومسؤولية

قال الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10]. وقال سبحانه: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}[النّساء: 114].

الاختلاف سمة الكائنات

لقد طبع الله سبحانه وتعالى البشر في الحياة بطابع الاختلاف، كما طبع الكون بكلّ كائناته بهذا الأمر، فأنّى تدر الوجه ترَ الاختلاف، في النّوع والشّكل والوظيفة والدّور... فالزّهور على مدِّ البصر، والثّمر مختلفٌ ألوانه، وكذلك الأمر في الجبال والبحار، وفي الكواكب والنّجوم، وفي أشكال النّاس والحيوان.

وإذا وصلنا إلى الإنسانِ أفضل خلق الله، فإنَّنا لا نرى إلا الاختلافَ. فمن حيث الشَّكل، يستحيل أن نرى شخصين طبق الأصل، فلكلٍّ خريطته الوراثيَّة الَّتي تحدِّد مظهره، كما تحدِّد معالم شخصيَّته. ولهذا، فمن الطَّبيعيّ أن نرى الاختلاف بين البشر في الإمكانات والقدرات، وفي الطَّبائع والأمزجة والآراء وطريقة النَّظر إلى الأمور والأهداف، وفي ميول الأهواء والمصالح... كلٌّ حسب بيئته.

إذاً، نفهم الاختلاف تنوّعاً، ونفهمه غنًى، ونفهمه تكاملاً وتلاقياً وتراكماً، وهذه هي الإيجابيَّة في الاختلاف الَّذي يلوِّن الحياة، ويُخرج المجتمع عن الرَّتابة الّتي ينتجها الرَّأي الواحد، أو الاتّجاه الواحد، وحتَّى المزاج الواحد.

أمَّا ما هو غير طبيعيّ في الاختلاف، فهو عندما يتحوَّل من نعمةٍ إلى نقمة، ومن الايجابيَّة إلى السلبيَّة، ويكون سبباً للمشاكل والتوتّرات بين الجماعات والجهات المختلفة، سياسيّاً أو دينيّاً أو مذهبيّاً، أو بين العائلات والأفراد.. أفراد الوطن الواحد، أو المجتمع الواحد، وحتى بين أفراد العائلة الواحدة؛ بين الأخ وأخيه، والزّوج وزوجته، والابن وأبيه، وهكذا...

ومن مظاهر هذا الاختلاف السَّلبيّ، نشوء حساسيّاتٍ داخل النّفوس، وبروز عداواتٍ وفتنٍ بين النّاس، قد تنتهي خراباً وفساداً ولعنةً وطرداً من رحمة الله...

الدَّور التَّربويّ للأنبياء

ومن هنا، انطلقت دعوة الإصلاح، وأرسل الله الأنبياء لأجل ذلك رحمةً بالنَّاس، وهذا ما أشار الله إليه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ}[البقرة: 213].

فدور الأنبياء هو صمَّام الأمان في الدّنيا، الذي يَحُول دون استحكام الخلافات بين الناس، بحيث تكون الدّنيا صورةَ الآخرة، كما وصفها لنا الله: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر:47]. فقد ركَّزوا من خلال دورهم التَّربوي على تربية النَّاس على أخلاقيَّات الاختلاف، فنبذوا العصبيّات، ودعوا إلى التّواصل وعدم التّباعد، وإلى الحوار الشّامل في كلّ الاتجاهات، واعتبار الرّفق هو الأساس، والعنف هو الاستثناء.

ففي القرآن دعوة واضحة إلى أن تكون الأخلاق هي الَّتي تحكم العلاقة عند الاختلاف: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8].

فلا العاطفة تفقد الإنسان العدالة في الكلمة والموقف، ولا الاختلاف يحجزه عن إعطاء الحقِّ لمن يختلف معه، ولا يدفعه إلى التجنّي عليه، أو إساءة الظنّ به.

واجب الإصلاح

وإلى جانب كلِّ هذا الدَّور التَّربويّ الَّذي يقوم به الأنبياء والأئمَّة، كان التَّأكيد من الله ضرورة تدخّلهم المباشر كإطفائيِّين في المجتمع، يعملون على تقريب وجهات النَّظر، ويمنعون تحوّل الاختلاف إلى ضغائن وأحقاد، وهذا ما دعوا إليه، كما جاء عن الله سبحانه عندما قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً}[النّساء: 35].

هذا في العائلة، أما في المجتمع العام، فكانت الدَّعوة للمؤمنين إلى استنفار جهودهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10].

أمّا إذا ما استعر الخلاف، فعلى المجتمع أن يلجأ إلى استعمال القوَّة لفرض الإصلاح، وإلى هذا أشار الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحجرات : 9].

وحتّى الكذب الّذي هو من الكبائر، جائز في الإصلاح، بل هو واجب في بعض الحالات، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصّادق(ع): "المصلح ليس بكاذب"، وذلك بأن تسمع من أحدهم كلاماً يتحدّث عن آخر بسوء، لكنّك تعكس الأمر وتنقله بخلاف ما سمعت، حتَّى تحلّ المشكلة بينهما.

الرَّسول المُصلح

والصّلح كما هو قيمة في الحياة، هو قيمة عند الله، وله الموقع الكبير عنده، فقد ورد عن رسول الله(ص): "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصِّيام والصَّلاة والصَّدقة؟ إصلاح ذات البين".

ويبقى لنا في رسول الله أسوة حسنة، وهو الَّذي كان المصلح قبل أن يُبعث رسولاً، إذ أصلح بين قبائل مكّة، عندما اختلفوا في من يضع الحجر الأسود في مكانه، وحلَّ إشكالات المائة عام بين الأوس والخزرج.

وكان رسول الله(ص) حريصاً على أن تبقى عيناه مفتوحتين على كلّ الخلافات الّتي يُراد لها أن تعصف بالمسلمين وتشقّ مجتمعهم، وكان اليهود دائماً هم المشكلة، وهو ما حصل مع أبرز مشايخ اليهود، ويدعى شاس بن قيس ـ وهذه القصّة قد تحصل معنا، وفي كلّ زمان ومكان ـ كان هذا الرّجل شديد الحقد على المسلمين، وشديد الحسد لهم، مرَّ ذات يومٍ على مجلسٍ فيه نفرٌ من أصحاب رسول الله، فغاظه ما رأى من ألفتهم واجتماعهم، بعد الّذي كان بينهم من العداوة في الجاهليّة، فأمر شابّاً من اليهود أن يدخل بينهم ويذكِّرهم بالحرب الّتي كانت بينهم ـ أي كما يقولون، يهزّ الودّ بينهم ـ ففعل الشابّ ما أُمِر به، وجرَّ القوم إلى التكلّم عن الماضي، فتفاخروا حتَّى تواثب رجلان، واحدٌ من الأوس، والآخر من الخزرج، وراح أحدهما يهدّد الآخر، وكادت نيران الاقتتال تتأجّج بينهما من جديد، فبلغ ذلك رسول الله(ص)، فخرج إليهم مع بعض أصحابه من المهاجرين، حتّى جاءهم وقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهليَّة وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة، واستنقذكم من الكفر، وألّف به بينكم؟".

فعرف القوم أنّها نزغةٌ من نزغات الشّيطان، وكيدٌ من عدوّهم، فبكوا وعانقوا بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله مطيعين، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدوِّهم.

والأئمّة(ع)، كما رسول الله(ص)، حرصوا على أن يكونوا مصلحين في مجتمعاتهم، وقد وجّه الإمام الصّادق(ع) أصحابه إذا رأوا منازعةً بين اثنين، الى التدخل لحل الخلاف حتى لو اقتضى الأمر أن ينفقوا المال في سبيل ذلك.

لإحياء دور الإصلاح

وهذه المسؤوليّة تابعها العلماء الّذين شكّلوا عبر تاريخهم دور المصلحين بين العشائر والقبائل، وسعوا لحلِّ الخلافات العائليَّة، وصاروا مقصداً لكلّ من استعصت عليهم الحلول. وهو الدّور المطلوب استمراره في كلّ زمانٍ ومكانٍ، والعمل على تطويره وتنظيمه من خلال العاقلين والواعين في المجتمع.

وهذا الدّور يتطلّب ممن يودّ التصدّي له، الحكمة والصّبر والموضوعيّة والعدل والكتمان، وفوق كلّ ذلك: الاستعداد للتّضحية وتحمّل النّتائج...

ونحن بتنا للأسف، نشهد انكفاءً عن القيام بهذا الدّور، إمّا لقلِّة الصّبر على تحمّل مشاكل النّاس، أو نتيجة اللامبالاة تجاه ما يجري من حولنا، أو لتعقيدات ظروف الحياة ونمط العيش. هذا في الوقت الّذي بدأ الغرب يعي أهميّة وجود مصلحين، فأنشأ إلى جانب مراكز القضاء، مراكز تعمل على مساعدة الأفراد والعائلات على حلّ المشاكل الّتي بينهم، بعيداً عن الموادّ القانونيّة الجامدة، وإسلامنا كان له السّبق في ذلك.

أيّها الأحبّة، كم نحن بحاجةٍ في هذه المرحلة إلى العمل الجدّيّ من أجل تفادي النّتائج المدمّرة للخلافات الّتي تعصف بواقعنا، والّتي تربكه وتؤدِّي إلى فقدان الأمن والاستقرار فيه، وذلك بأن يكون هناك اختصاصيّون يطفئون الحرائق حتَّى لا تمتدّ، وكما نسعى إلى وجود مراكز إطفاء للحرائق المادّيّة، فإنّنا بحاجةٍ إلى إيجاد مراكز إطفاءٍ للمشاكل العائليّة والعشائريّة، وفي الأحياء وبين الأديان والمذاهب، لأنّ نتائجها أخطر...

لذلك، الخوف، كلُّ الخوف، عندما لا ننظر بعيونٍ مسؤولةٍ إلى كلِّ الخلافات الَّتي تعصف بواقعنا. وكما يتمُّ علاج الخلاف بعد حصوله، فإنَّ علينا أن ننزع الاسباب التي تؤدي الى اثارة الخلافات وتأجيجها، وذلك بالالتفات إلى كلماتنا الَّتي غالباً ما نطلقها في بيوتنا وأمام أطفالنا، أو في أماكن عملنا، من دون حسابٍ أو تدقيق، ومن دون أن ندرس المكان والزَّمان للحديث بها، لأنَّنا عندما نطلق كلماتنا ـ وحتَّى لو كانت صحيحةً ـ في جوٍّ متوتّر ومتشنِّج، نكون كما لو رمينا شرارةً في أرضٍ مملوءةٍ بالقشّ.

والكلمة عندما تنطلق، لن تستطيع أن تضبط نتائجها. وكم من الكلمات هدّمت بيوتاً، وأنتجت دماراً، وأسقطت أمناً، وأدَّت إلى عداواتٍ لا تلتئم. وكما قال الشّاعر:

جراحات السِّنان لها التئامٌ ولا يلتام ما جَرَح اللِّسانُ

والأمر لا يقف هنا، بل هو مسؤوليَّة بكلِّ نتائجه أمام الله، ولذا ورد أنَّه يؤتى يوم القيامة للإنسان بقارورةٍ فيها دم، فيقال له: هذا نصيبك من دم فلان، فيقول يا ربّ، لم أقتل ولم أجرح، فيقال تكلَّمت بالكلمة، وهذه الكلمة أدَّت إلى فتنةٍ أنت تتحمَّل مسؤوليَّتها.

الابتعاد عن أسلوب الشّتائم

أيّها الأحبَّة، لنسعَ جاهدين إلى أن لا يتحكَّم بنا الانفعال.. فلنبرِّدْ أعصابنا، ونزلْ الأحقاد من قلوبنا فتُزال من قلوب الآخرين، ولنعالج خلافاتنا. ولا بدّ من أن نعرف أنّ أعداءَنا أنشؤوا مراكز للدّراسات لدرس خلافاتنا الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة، والبحث في أفضل السّبل لتفريقنا، وسلاحهم الإشاعات والتَّحريض، والأمر اليوم بات ممنهجاً بوجود وسائل الإعلام بتقنيّاتها وبمن يموِّلها وبمن يقف وراءَها ..

لهذا، مزيداً من الكلمات الطيّبة الّتي تفتح قلوب الآخرين على الحقّ، وتزيل كلّ توتّر وانفعال: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء: 53].

امتداد فتوى السيد(رض) بتحريم الاساءة الى الصحابة وأمهات المؤمنين:

لنبتعد عن كلِّ أساليب الشَّتم والسّبّ واللَّعن، مما اعتدناه عند الاختلاف، فالسّبّ لا ينتج إلا سبّاً.. وهنا، نستذكر الفتوى الّتي أصدرها سماحة السيّد(رض) لوأد الفتنة من أساسها، بعدم جواز سبِّ صحابة رسول الله(ص) أو الإساءة إلى أمّهات المؤمنين، والّتي تابعها السيّد الخامنئي (حفظه الله). ليكن الصّوت دائماً كما قال عليّ(ع): "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّةً".

أيّها الأحبّة، نتطلَّع اليوم إلى العالم من حولنا، فنراه، رغم خلافاته، يتوافق من أجل مصالحه على حساب مصالحنا، فنشعر كم نحن بحاجةٍ إلى من يتطوَّع في درب الإصلاح: توعيةً، وتربيةً، وعملاً، من العقلاء الّذين يئدون الفتن ويطفئون الحرائق.

أيّها الأحبَّة.. إنَّنا متعبون اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، فلماذا نزيد تعبنا من خلال السَّماح للمتهوّرين والانفعاليّين، والَّذين يُتقنون إثارة المشاعر وإطلاق الكلمات غير المسؤولة، بأن يديروا واقعنا ونصغي إليهم.

أيّها الأحبّة، هل نكون المؤمنين الواعين وندرك ما يُحاك لنا؟ هل نكون المصلحين؟ الأمر بأيدينا، وهو مسؤوليَّتنا، فهل نستجيب؟!

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

تضييق الخناق على فلسطين

وتبقى فلسطين المحتلَّة أمَّ القضايا العربيّة والإسلاميّة، ويحاول العدوّ في هذه المرحلة بالذّات، تضييق الخناق على هذه القضيّة، معتمداً كلّ أساليب الإرهاب والتّهويد والتّهويل والاستباحة.

وما نشهده في هذه الأيَّام بالذَّات، تكرارٌ من الصَّهاينة لأساليبهم العدوانيَّة والوحشيَّة، في إحراق المساجد في فلسطين المحتلَّة، كما فعلوا بمسجد الأنبياء في بيت لحم، الَّذي أحرقوه وانتهكوا حرمته، إلى جانب إحراقهم لنسخٍ من القرآن الكريم، فيما يتلهَّى العرب بمشاكلهم، ويغطّ المسلمون في سباتٍ عميقٍ أمام خطر العدوّ، بينما يشحذون السَّكاكين للفتنة الدّاخليَّة لتهيئة مناخات الفتنة المذهبيَّة في مختلف المواقع.

وها هي فلسطين تدفع الأثمان باهظةً من دماء أبنائها، الّذين يغتالهم العدوّ من يومٍ إلى آخر، إضافةً إلى التصرّفات المخزية مع الأسرى في السّجون، على النَّحو الّذي ظهر في شريطٍ مسجَّل مؤخَّراً، إلى ترابها الَّذي يدنِّسه الاستيطان الزَّاحف إلى ما تبقَّى من مساحاتٍ غير مأهولةٍ في قلب الضفَّة، ومن إحراقٍ للمساجد وتدنيسٍ لحرمتها، كنموذجٍ يمكن تكراره مع المسجد الأقصى الّذي يُراد له أن يسقط عن طريق الإحراق أو التّهديم، أو من خلال المخطَّط الجديد الرَّامي إلى تهديم الآثار الإسلاميَّة فيه، وكلّ ذلك تحت نار المفاوضات الهادئة، أو على هدير جرَّافات المستوطنين الّتي تستبيح المزيد من الأراضي، فيما يتحدّث العدوّ مجدّداً عن ملهاة التّجميد لعمليّة الاستيطان، لتستمرّ اللّعبة الدّوليّة الّتي تراقبها الأنظمة العربيّة، فتتبرّع بتأييدها، أو توحي إلى الفلسطينيّين بضرورة الانضباط عند شروطها ومعطياتها...

إنَّ الحرب على فلسطين قد دخلت في آخر المراحل، ولذلك فإنَّ إشاعة مناخات الفتنة في البلدان والمواقع المحيطة بها، هي الشّرارات التي يُراد لها أن تسمح بتمرير السّيطرة على قدس الأقداس، على وقع الفتن المتنقّلة هنا وهناك.

ولعلَّ من اللافت للانتباه، أنَّ بعض المسؤولين العرب يؤكِّدون ضرورة الانصياع لقرارات المجتمع الدَّوليّ، فيما يتناسون التَّذكير بقرارات الأمم المتّحدة فيما يتّصل بحقّ العودة وتقرير المصير والأرض المحتلّة وما إلى ذلك، لتبقى العناوين القضائيّة الدّوليّة سيفاً مسلطاً على العرب والمسلمين، وليحظى العدوّ بمزيدٍ من الحماية، حتّى مع صدور قرار "غولدستون"، ومع الجرائم الّتي ارتكبها العدوّ في غزّة، وضدّ أسطول الحرّيّة مؤخّراً، حيث لا محاكم دوليّة ولا من يحاكمون..

خطّة الغرب: التّخويف من الإسلام

وإلى جانب ذلك، تتوالى الأخبار حول تحذيراتٍ متواصلةٍ من الإدارات الغربيَّة المتعدّدة حول تفجيراتٍ قد تقع في هذه الدّولة الأوروبيَّة أو تلك الأمريكيَّة، ليتقدَّم عنوان "الإرهاب الإسلاميّ" إلى الواجهة الإعلاميَّة والسياسيّة الغربيّة، في سياق خطّةٍ مدروسةٍ للتّخويف من الإسلام، ولتطويق حركة الهجرة العربيّة أو الإسلاميّة باتّجاه هذه الدّول، ولتقديم الإسلام كهاجسٍ أمنيٍّ يؤرّق الغربيّين دائماً..

إنَّنا في الوقت الّذي نرفض أيَّ اعتداءٍ على الآمنين، أو على وسائل النّقل والنّظام العام في البلدان الغربيّة وغيرها، نرفض زجّ اسم الإسلام في هذه الأحداث أو التّخويف منه، أو القيام بحملاتٍ عنصريّةٍ تستهدف المسلمين في بلاد الغرب، تحت هذه الحجج والذّرائع الّتي باتت مكشوفةً ومعروفة الأهداف والغايات...

حرب تشرين: إمكانيّة قهر العدوّ

وإلى جانب ذلك، نلتقي في هذه الأيّام بذكرى حرب تشرين، الّتي أطلقت إشارةً حاسمةً إلى إمكانيّة قهر العدوّ، على الرّغم من تضافر جهود الكثير من المتواطئين والخاضعين للمنطق الأمريكيّ، لجعلها تجربةً محدودة، أو لمنعها من أن تكتمل وتصل إلى نتائجها الكبيرة، وقد أظهرت وثائق هذه الحرب الّتي نشرتها وسائل إعلام العدوّ مؤخّراً، مدى الخوف الّذي هزّ الصّهاينة وكيان العدوّ عند انكسار جيشهم، وكيف صرخ وزير حرب العدوّ يومها، موشيه دايان، قائلاً: إنّهم يريدون القضاء على اليهود...

إنّنا نريد لهذه الذّكرى الّتي يتحدّث العدوّ عن مرارتها، ويربطها بإخفاقاته اللاحقة في لبنان، وخصوصاً حرب تمّوز، أن تتحوّل إلى هاجسٍ له، من خلال الإعداد الميدانيّ المستمرّ لمنعه من تحقيق أهدافه في مباغتة لبنان، أو القيام بأيّة حماقةٍ تستهدف الكيان العربيّ والإسلاميّ.

أمّا الإدارة الأمريكيّة الّتي تتباكى في هذه الأيّام على لبنان، وتدعو سوريا إلى احترام سيادته، فهي لا تنبس ببنت شفةٍ حول الانتهاكات الصّهيونيّة اليوميّة لهذه السّيادة، وهي الّتي كانت ولا تزال تتدخّل في الشّؤون اللّبنانيّة الدّاخليّة، وفي التّفاصيل السياسيّة والانتخابيّة، وليست زيارة نائب الرّئيس الأمريكي "بايدن" إلى لبنان، وما جرى خلالها، ببعيدة عن أذهان اللّبنانيّين، ولذلك ننصح المتباكين وذارفي دموع السّيادة على أبواب زيارة الرّئيس الإيراني للبنان، أن ينظروا إلى الواقع بعيونٍ مفتوحة، ليبصروا مدى حرص إيران وسوريا على سيادة لبنان، وما يعمل له العدوّ بالتّعاون مع أمريكا لهتك هذه السّيادة وتدميرها...

لبنان: لتعطيل لغم المحكمة الدولية

إنّنا نقول للّبنانيّين: لقد دخل لبنان في المرحلة الصَّعبة والخطرة، بفعل الخطَّة الدّوليَّة السّاعية لاستخدامه كورقةٍ في الصّفقات الدّوليَّة والإقليميَّة الّتي تسعى الإدارة الأمريكيَّة لعقدها مع أكثر من محورٍ في المنطقة، والّتي تعمل من خلالها لسحب كلِّ عناصر القوَّة والممانعة من أيدي العرب والمسلمين، وخصوصاً سلاح المقاومة في لبنان، والمطلوب هو أن يسقط الأمن اللّبنانيّ العربيّ كثمرةٍ ناضجةٍ بيد أمريكا والعدوّ، لحساب "يهوديّة الدّولة" الّتي يعمل المبعوث الأمريكيّ على الوصول إليها من نافذة المفاوضات المباشرة.

ولذلك، فإنَّ المطلوب هو الدَّفع بحركةٍ لبنانيَّةٍ ميدانيَّةٍ وسياسيَّةٍ واعية، لإغلاق المنافذ على الخطّة الأمريكيّة الجهنّميّة. وعلى اللّبنانيّين أن يأخذوا بزمام المبادرة، لتعطيل اللّغم الكبير الّذي زُرع من خلال المحكمة الدّوليّة، وبالتّالي، لا بدَّ من الانتقال من مرحلة التَّراشق الكلاميّ، إلى مرحلة العمل الجدّيّ والسّريع، قبل أن تداهمنا ظروف المنطقة ومعطيات الخطَّة الاستكباريَّة الدّوليَّة، فيسقط الهيكل اللّبنانيّ على رؤوس الجميع، ويقع الوطن في قبضة الاغتيال والملاحقة والمصادرة.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 30 شوَّال 1431 هـ الموافق: 08/10/2010 م


ليست هناك تعليقات: