4 أكتوبر 2010

لا نسبّ ولا نلعن


في ظلّ التعصّبات المذهبيّة بين المسلمين، وبين غيرهم أيضاً، يبرز السباب كوسيلة للتنفيس عن العقدة النفسيّة ضدّ الآخر عبر إلغاء من يسبُّه من دائرة قيمه التي شكّلها الإنسان لنفسه، من هذا المذهب أو ذاك، مستبعداً لحسابات القيمة الواقعيّة فيمن يسبُّه، سواء في إيجابيّاته أو سلبيّاته، فيما ركّزه المنهج الإسلامي في قوله تعالى: (ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). ولا شكّ بأنّ الإمام عليّ (ع) قد استلهم القرآن عندما خطب في أصحابه في معركة صفّين ضدّ معاوية الذي خرج على خليفة زمانه: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبّكم إياهم اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم حتى يعرف الحقّ من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".

وفي غمرة ازدياد التعصّبات المذهبيّة أيضاً يبرّر البعض لعنَ الآخر بأنّه إذا كان قد ورد النهي عن السباب بسبب الاختلاف فإنّ اللعن غير السبّ، علماً بأنّ الله سبحانه وتعالى لعن في القرآن الكريم، فقد لعن الله تعالى الظالمين والكافرين والمنحرفين وما إلى ذلك، بالإضافة إلى ورود بعض الآثار الدينيّة التي تمّ فيها لعن أشخاص أو فئات ممّن تلطّخت أيديهم بدماء زكيّة طاهرة.. وهنا أقف عند عدّة نقاط:

1- أنّ لعنَ الله سبحانه وتعالى لخطّ فكريّ أو عمليّ معيّن لا يُقاس عليه فعل العباد كما هو واضح.

2- أنّ قوله تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علمٍ كذلك زيّنا لكلّ أمّة عملهم) يعطي القاعدة بأنّ سبّ الآخر يستدعي سبّ الآخر لك، والسبب في ذلك أنّ لكلّ إنسان مقدّساته وهو قوله تعالى (كذلك زيّنا لكل أمّة عملهم)، وليس من شكّ أنّ المختلفين مذهبيّاً يردّدون مع القرآن: "لعنة الله على الظالمين...." ومع ذلك لا يوافقون على من هو الظالم الذي يستحقّ اللعن؛ لأنّ من يراه البعض ظالماً لا يراه الآخر كذلك، مما يعني أنّ مناط السبّ واللعن في ذلك واحد، خصوصاً وأنّ اللعن اكتسب أصبح يختزن السبّ بفعل تطوّر الدلالات اللغويّة الاجتماعية.

3- أنّ الآثار التي ورد فيها اللعن لا بدّ أن تُدرس في اتجاهين: الأوّل هو الاتجاه السندي الذي يدقّق في سند هذه الآثار، علماً بأنّ كثيراً منها لا يصمد أمام النقد، وبعض الزيارات ـ مثلاً ـ التي ورد فيها اللعن هي ضعيفة السند بل بعض رواتها من الغلاة.. والثاني هو اتجاه المناقشة الدلالي الذي يُخضع تلك الآثار لظروفها الاجتماعية التي قد تختلف فيها دلالات اللفظ وسياقاته عما هو الحال عليه اليوم، خصوصاً وأن الرموز الملعونين في تلك الآثار كانوا أحياء يمكن أن يُدار حولهم الجدل الديني والقيمي عموماً فأريد من خلال اللعن توجيه الأنظار إلى أفعالهم بطريق غير مباشر، أو غير ذلك من الوجوه التي تختلف فيها الظروف والأوضاع.

4- هناك أحاديث كثيرة وردت عن النبيّ (ص) وفيها "لا يكون المؤمن لعّاناً"، "إنّي لم أبعث لعّاناً وإنما بعثت رحمة"، وما إلى ذلك ممّا يُمكن أن نستفيد منه أنّ المؤمن بعيد عن اللعن وروحيّته؛ لأنّه الإنسان المنفتح على كلّ ما يقرّب منه ومن رسالته.

إنّ من الواضح أنّ هدف الإنسان الرسالي المسلم هو في اجتذاب الناس إلى خطّه وفكره الذي يراه صواباً، ومن وسائل ذلك ما أكّده الإمام عليّ (ع) في قوله: "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"، وموانع الحوار شرّ، والحقد الأعمى شرّ، والله من وراء القصد.

جعفر فضل الله

مقال نشر في جريدة بيّنات بتاريخ 22-7-2004


ليست هناك تعليقات: