4 أكتوبر 2010

الذين يؤمنون بالغيب.. بالعقل


عندما عرّف الله سبحانه وتعالى المتّقين بأنّهم (الذين يؤمنون بالغيب) [البقرة/3]، فليس المراد من ذلك بيان أنّ الذي يعيش التقوى هو الذي يؤمن بالغيب، أيّاً كان ذلك الغيب.. حتّى أصبح المؤمن الحقّ، في كثير من الأوساط، هو الذي يسارع للاعتقاد بكلّ ما يطرق سمعه من الإخبارات والأحاديث ذات الطابع الغيبي، الماورائي، الخارق للعادة، من معجزاتٍ أو كرامات. في الوقت الذي باتت فيه مناقشة أيٍّ من ذلك، ضمن الأسس العلميّة الموضوعيّة للإثبات، سقوطاً في أحضان المادّة، وابتعاداً عن الروحانيّة التي قد تساوق ـ عند أولئك ـ الغيب والغيبيّات.

إذا قارنّا الآية مع ما ورد في آيات أخرى، كقوله تعالى: (ليعلم الله من يخافه بالغيب) [المائدة/94]، وقوله تعالى: (ليعلم الله من ينصره بالغيب) [الحديد/25]، وقوله تعالى: (إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرةٌ وأجر كبير) [الملك/12]، لاتّضح لنا أنّ المقصود هو بيان عمق إيمانهم، من خلال تقواهم وخشيتهم وخوفهم من الله، ونصرتهم له، مع كونه غيباً. وذلك لأنّ الإنسان ـ بطبعه ـ أكثر ميلاً إلى الحسّ والشهود منه إلى عالم المجرّد والغيب، ولذلك فإنّ حركة التقوى في واقع الإنسان، واندفاعه لنصرة الله من خلال نصرة دينه وكلّ القيم الحقّة في الحياة، ارتباطاً بالإله الذي لا يدركه ببصره، تدلّ على أنّ الإيمان لدى ذلك الإنسان قد تفاعل في نفسه، بحيث أصبح جزءاً من وجدانه، وخرج عن كونه مجرّد نظريّة جامدة ضمن معادلات العقل الجامدة، إلى أن أصبح عاملاً محركاً لكلّ قوى النفس، لكي تكون في خطّ الطاعة وما يرضاه الله سبحانه وتعالى.

ولعلّنا، على أساس ذلك، نفهم أنّ تعريف المتّقين بأنّهم المؤمنون بالغيب، لا يعني أنّ الإيمان فوق العقل، أو خارج دائرته؛ لأنّ العقل هو الميزان الذي يميّز الغيب الواقعيّ من الغيب الخياليّ أو الوهميّ، والعقل هو الذي يبرّر للغيب غيبيّته، وذلك حين يدرك سبب غيابه عن الحواس، ـ وهذا هو معنى الغيب ـ، هذا السبب الذي قد يرجع إلى قصورٍ في الحواسّ، يفرضها الخلل فيها، أو خصوصيّة ما يُراد إدراكه.

إنّ أيّ إيمانٍ لا يمرّ من طريق العقل هو إيمان بفكرة لا دليل عليها ولا بُرهان، ولذا لا يُمكن الحكم بواقعيّتها، فكيف تُدرج في دائرة الاعتقاد؟!

ليس ثمّة غيبٌ أشدّ وجوداً، وأقوى حضوراً، من الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فإنّ الإيمان به، وبصفاته، إنّما يشيَّد من خلال البراهين والأدلّة التي يُذعن لها العقل، والعقل هو الذي يقول لنا إنّ الله سبحانه لا تدركه الأبصار، بالدليل والبرهان؛ فكيف بسائر الأمور؟!

ليس المقصود هنا التنكّر للمعجزات والكرامات، فإنّه لا يُنكر وقوعها إلا مكابر، فكيف والقرآن ناطقٌ بها بأوضح من الشمس، ولكنّنا نشير إلى ضرورة التأمّل فيما يُنقل، وأن لا يكون هناك نزوعٌ للاعتقاد من دون برهان، فإنّ الانفلات من سلطة العقل، تجاه التحقّق من واقعيّة أيّ شيء، من شأنه أن يؤدّي بالإيمان إلى الوقوع في شرك الخرافة والأسطورة، والوهم أحياناً، والله من وراء القصد.

جعفر فضل الله


ليست هناك تعليقات: