17 أكتوبر 2010

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:


الخطبة الأولى

إتقان العمل قيمة إسلامية كبرى


قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ}[الملك: 1-3] .

"الأحسن" قيمة قرآنيَّة

"الأحسن" هو العنوان الّذي عبَّر به الله عن ذاته المقدَّسة: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}[الأعراف:180]، وهو الصّورة الَّتي أشار إليها عندما تحدَّث عن خلقه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ...}[النَّمل: 88].

فأينما ولَّيت وجهك، لا تجد خللاً ولا تفاوتاً ولا اضطراباً: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} [الملك: 3].

والإنسان؛ هذا المخلوق الّذي أسند اللّه إليه خلافته في الأرض، ليبعث الحيويّة فيها.. أبرزه الله بالصّورة الأحسن: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التّين: 4].

وهذا الأحسن نراه في أنبيائه وأوليائه الّذين عندما أرسلهم إلينا، أدَّبهم فأحسن تأديبهم، وطهَّرهم من الرّجس فأحسن تطهيرهم، وفي حديثه لعباده: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ...}[الزّمر: 23]، {كتابٌ أُحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير} [هود:1]، والله سبحانه عندما اختار لنا القصص، اختار أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ...}[يوسف: 3]، وأتمَّ علينا أحسن النِّعم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا...}[المائدة: 3].

فالأحسن، وليس مجرّد الحسن، هو الّذي أراده الله سبحانه أساساً لحركة عباده، وهو ما سيحمّلهم مسؤوليّته ويحاسبهم عليه يوم القيامة، فهو الّذي قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الملك: 2].

فالموقف بين يدي اللّه عزَّ وجلّ، لن يكون عنوانه من هو «الأكثر عملاً»، بل من هو «الأحسن عملاً»، أي الأصوب في عمله، والأكثر جودةً وإتماماً وإكمالاً وإتقاناً، وعلى أساس ذلك سيحاسبنا.

الأسلوب والعمل الأحسن

وقد أراد الله لهذه القيمة، "الأحسن"، أن ترافقنا في كلِّ ما نقوم به، ومهما كان: قولاً، أو مظهراً، أو حركةً، أو صنعةً، أو علماً، أو عملاً...

فالله يريدنا في قولنا، كما في استماعنا، أن نكون الأحسن: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزّمر: 18]، وأن يكون حوارنا هو الأحسن: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النّحل: 125]، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46]، وفي التّعامل مع أموال الآخرين: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الأنعام: 152].

وفي معالجة الأمور، لا بدّ من أن تعالَج بالأسلوب الأحسن: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت:34]. وعند التحيَّة، لا بدَّ من أن يكون ردّنا هو الأحسن: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا}[النّساء: 86].

والعمل الأحسن، هو ما حرص رسول الله(ص) عليه عندما دعا إلى العمل المُتقن، العمل المدروس والمحكم والمتميِّز، ولذا ورد: «لا يكن همّ أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همّه في إحكامه وتحسينه». وكان(ص) دائماً يؤكِّد: «إنَّ الله يحبُّ المحترف الأمين». وفي هذا الحديث، أريدكم أن تلاحظوا تأكيد رسول الله(ص) عدم كفاية الأمانة، بل لا بدَّ من الاحتراف، لأنَّه لا يكفي للمرء أن يكون أميناً، على أهميَّة هذه القيمة، بل ينبغي أن يرافق ذلك الاحتراف والعلم والخبرة والدقَّة. وتنقل لنا السِّيرة عن رسول الله(ص) أنَّه عندما رأى في لحد ولده خللاً سوَّاه بيده، ثم قال: «إنَّ الله يحبُّ إذا عملَ أحدكم عملاً أن يتقنه». وحتّى في الكفن حيث قال: «إذا كفَّن أحدكم فليحسن كفنه، وفي القبر احفروا وأعمقوا وأحسنوا».

والمَواطِن والأحكام الَّتي دعانا فيها الرَّسول(ص) إلى العمل بصفة "الأحسن" كثيرة، وهي تمتدّ لتتحرَّك في كلِّ الميادين، وقد اعتبر الإتقان أساساً في بناء شخصيَّة الإنسان المسلم.

مسؤوليّة شرعيّة

وقد حرص الإسلام على أن لا تتحوَّل الجودة ولا يتحوَّل الإتقان إلى أمرٍ اختياريّ مزاجيّ، فقد حمّلت الشّريعة الإسلاميّة الّتي جاء بها النبيّ(ص) المسؤوليَّة للّذي لا يتقن عمله، واعتبرته غير معذورٍ عند قيامه بأمرٍ هو غير قادرٍ عليه؛ فالطّبيب والمهندس والإداريّ والسياسيّ والأستاذ، وحتّى عالم الدّين والمربّي وغيرهم، كلٌّ يتحمّل المسؤوليّة، كلّ المسؤوليّة، عن الأخطاء الّتي يرتكبها، والهفوات الّتي يقوم بها، إذا ما تصدَّى لأمرٍ هو غير مؤهَّلٍ له، لأنَّ نتيجة عمله سيكون بها خلل، وانعكاسها قد يكون كبيراً وخطيراً، ومسؤوليّته في ذلك لن تكون فقط أمام النّاس، بل أمام الله، حيث سيواجه المسؤوليّة، عندما يأتي النّداء: {وقفوهم إنّهم مسؤولون}[الصافات: 24].

وقد استطاع المسلمون من خلال قيمة الأحسن الّتي ربّاهم الإسلام عليها في العبادات والمعاملات، وحتّى في أسلوب قراءتهم للقرآن، أن يصنعوا كلَّ هذا المجد الّذي صنعوه في التّاريخ، على مستوى الفكر والحضارة، وكان لهم كلّ هذا التألّق، ولا تزال آثار إتقانهم واضحةً في البناء وما تركوه من علمٍ ومعرفة.. وإذا انكفأ المسلمون اليوم، فلأنّهم ضيَّعوا هذه القيمة وأبعدوها عن قاموس حياتهم، وأصبحت الأمور تجري عندهم كيفما كان.

أيّها الأحبّة: إنّنا نعاني في واقعنا من غياب الإتقان، في كلّ مواقع المجتمع، بحيث بتنا لا نطمئنّ إلى أيّ طبيبٍ أو مهندسٍ أو حرفيّ أو مهنيّ، حتّى لو كان هؤلاء يحملون شهادات جامعيّة أو شهادات خبرة. وبتنا نشعر بالخوف من بضاعةٍ محليّةٍ، ولا نثق بدقّة صنعها وإتقانها، ونطمئنّ أكثر إلى بضاعةٍ أجنبية، وأصبحنا نتيجةً لذلك، نعاني من عدم الثّقة بأنفسنا، رغم أنّنا نملك الكثير من القدرات والإمكانات لنتقن ونبدع، مع أنّ العالم الغربي هو أيضاً بدأ يشهد اهتزازاً في صورة الكفاءة المشهود له بها، حيث حوادث الطّائرات تزداد، والخلل في التّصنيع يطال ملايين السيّارات الّتي تحدّث عنها الإعلام أخيراً، ولكنّه يرى هذه الأخطاء ويعترف بها ويسعى لتصحيحها، لا لطمسها كما نعاني في واقعنا.

إنّنا بحاجة إلى إعادة النّظر في كلّ هذا الواقع، وأن نسعى لعلاجه، حتّى نعيد الثّقة بأنفسنا، وحتى نعود إلى السّير بركب الحضارة، ولنخفّف الكثير من توتّراتنا الّتي تحدث نتيجة عدم الدّقّة في عملنا والإتقان فيه.

معالجة أسباب التّقصير

أيّها الأحبّة: إنّنا في أوطاننا ومجتمعاتنا الصّغيرة لا نستطيع أن نعالج مشكلة غياب الإتقان إلا إذا عرفنا وعالجنا الأسباب المؤدّية إليه، وهي كثيرة: منها الكسل، وعدم الرغبة في العمل، والسّرعة في الأداء، ومنها عدم التّفكير في المصلحة العامّة للنّاس، بحاجاتهم وآلامهم وآمالهم، والرّغبة بالكسب السّريع. وقد يكون السّبب عدم الصّبر على العمل الدّقيق والتأنّي فيه، فالإتقان يحتاج إلى صبرٍ وتأنٍّ بالدّرجة الأولى.. وهنا يحضرني قول الشّاعر:

وما كُلُّ هاوٍ للجميل بفاعِلٍ ولا كُلُّ فعّالٍ له بِمُتَمِّمِ

وأضف إلى ذلك من أسباب غياب الإتقان، عدم المعرفة أو نقصانها، أو جمودها وعدم تطوّرها... وهناك سبب جوهريّ لعدم الإتقان، هو للأسف من فِعْلِ الَّذين يملكون إدارة الأعمال والمؤسَّسات، عندما لا يضعون الشَّخص المناسب في المكان المناسب، وهنا تدخل الوساطات والمحسوبيَّات والعواطف، فلا تحظى الكفاءات بفرصتها في العمل.

أيّها الأحبَّة: للخروج من كلِّ هذا الواقع الَّذي نعاني منه، لا بدَّ من أن نتحسَّس أهميَّة الإتقان، فإتقان عملك، هو قيمةٌ لكَ قبل أن يكون قيمةً للآخرين، وهو قيمة لك في الدّنيا قبل أن يكون قيمةً لك في الآخرة. عليك أن تعرف حدود طاقتك، وأين يمكن أن تكون، وقد ورد: "رحم اللَّه امرأً عرف حدَّه فوقف عنده".

لا تستحِ عندما لا تعرف أمراً أن تقول إنّك لا تعرفه، لأنَّ تبعات ذلك قد تكون كبيرةً عليك وعلى الآخرين. لذلك علينا أن نتابع المعرفة والتّدرّب ما دمنا نعيش في عصرٍ متغيّرٍ في معارفه وعلومه وتقنيّاته.

لنحرص على أن نصبر ونتأنّى في عملنا، فالتأنّي من الله، والعجلة من الشَّيطان، والبشرى للصَّابرين، ولنشعر دائماً برقابة الله والمسؤوليَّة تجاهه، تماماً مثل أيَّة رقابةٍ محسوسةٍ بل أكثر. فالمؤمن هو الّذي يعمل بهدف رضا الله وقبوله، وهو يشعر دوماً برقابة الله: «خف الله كأنّك تراه».

ولا بدّ من أن يواكب كلّ ذلك التّنظيم الدّقيق، والتّخطيط السّليم، والاستفادة من تجارب الآخرين ومن نقدهم، وثمرة كلّ هذا سيكون بالطّبع هو العمل الأحسن والأجود.

أيّها الأحبّة: الأحسن ثم الأحسن، الإتقان ثم الإتقان، الجودة ثمّ الجودة... هو ما نحتاجه في عبادتنا لربّنا، وفي تنظيم بيوتنا، وفي بناء أُسرنا وتربية أولادنا، وفي حياتنا الزّوجيّة... في تنظيم شوارعنا وطرقاتنا، في مدننا وقرانا، في إدارة مؤسّساتنا ومتاجرنا ومصانعنا، في علاقتنا ببعضنا البعض، أن نتقن الأداء في السّياسة والاقتصاد، وحتّى في مواقع الجهاد.. أن نحرص على الأحسن في القول والعمل والسّلوك.. بذلك نستعيد زمام المبادرة الّتي افتقدناها، وبذلك نبني واقعنا ونبني آخرتنا، وبذلك نعبِّر عن إيماننا، وعلى هذا النّحو يجب أن يرانا الله ورسوله والمؤمنون: {وَقُلِ اعْمَلواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التَّوبة:105].

"اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد وآله، وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيَّتي إلى أحسن النيَّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال"، يا أرحم الرَّاحمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

فلسطين: بدء تنفيذ مخطَّط التَّهويد

في فلسطين المحتلَّة، بدأ العدوّ الصّهيونيّ بتمهيد السّبل لتنفيذ مخطَّط تهويد فلسطين التّاريخيَّة، وإعلان يهوديَّة الكيان، وصولاً إلى ترحيل الفلسطينيّين من الأراضي المحتلَّة في العام 1948، تحت عنوان "قانون المواطنة" الهادف إلى نزع المواطنيَّة عن أهل الأرض الحقيقيّين، وإعطائها لليهود القادمين من أصقاع العالم، لتحقيق الهدف النّهائيّ لشعار: "أرضٌ بلا شعب، لشعب بلا أرض".

ومع إقرار حكومة العدوّ للتّعديلات على "قانون المواطنة" تمهيداً لإقراره في الكنيست، تكون مسيرة ترحيل الفلسطينيّين وتهجيرهم مجدّداً، وإسقاط حقّ العودة، قد بدأت فعلاً، لتبدأ معها معاناة جديدة للشّعب الفلسطينيّ، يُطلب فيها من الضحيّة أن تقدّم فروض الطّاعة والولاء للجلاّد، وأن تعلن التّنازل الكلّيّ عن كلّ مسيرة التّحرير الّتي انطلقت منذ ما قبل العام 1948...

وفي موازاة ذلك، شرب العرب المزيد من حليب الأرانب، فأعلنوا عن إعطاء الدبلوماسيّة الأمريكيّة مهلة شهرٍ لكي تحاول إنقاذ المفاوضات المباشرة بين السّلطة الفلسطينيّة وكيان العدوّ، فيما المزيد من شروط رئيس حكومة العدوّ، تطوِّق إرادات المسؤولين العرب وقراراتهم، وخصوصاً في عرضه الجديد عليهم: تجميد مؤقّت للاستيطان مقابل اعترافهم جميعاً بأنّ فلسطين أصبحت دولة الشّعب اليهوديّ...

لقد بدأ الخناق الدَّوليّ والإقليميّ يضيق من حول العنق الفلسطينيّ، ليتحوَّل إلى قبضةٍ حديديَّةٍ يُراد لها أن تتحكَّم بمصير المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة كلِّها، من خلال إحكام الطَّوق على المسألة الفلسطينيَّة بالذّات. ولذلك، فإنّ المسؤوليّة الملقاة على عاتق الشّعوب العربيّة والإسلاميّة كبيرة، لأنّ المسألة لا تتّصل بعنصريّة العدوّ وفاشيّته فحسب، بل بالمخطّط الدّوليّ السّاعي لإنهاء القضيّة الفلسطينيّة، وإسقاط مقولة الدّولة المستقلّة، وتحقيق طموحات العدوّ في فلسطين كلّها، وتمهيد السّبيل له لعدوانٍ جديدٍ على البلدان العربيّة والإسلاميّة المجاورة، وها هو يُعلن على لسان رئيس أركان جيشه، عن الاستعداد لاستخدام أوسع مجالٍ للقوّة في الحرب المقبلة.

الأمَّة رهينة اللّعبة الدَّوليَّة

إنّ ما يبعث على الكثير من القلق والارتياب، أنّ الأمّة الّتي استطاعت أن تحقّق نجاحاتٍ موضعيّةً ضدّ الاحتلال وقوى الهيمنة العالميّة في أكثر من موقع، وخصوصاً في لبنان والعراق وأفغانستان، لا تزال تحت رحمة قوى الطّغيان العالميّ الّتي تعمل لتفتيتها وتقسيمها مذهبيّاً وسياسيّاً، وحتى جغرافيّاً...

ولعلّ الصّورة تبدو أكثر وضوحاً عند معاينة المشهد السّودانيّ، الّذي يطلّ على مرحلة التّقسيم الفعليّة، بعد الاستفتاء المنوي تنظيمه في كانون الثّاني المقبل، والّذي تحشد المحاور الدّوليّة والقوى الأخرى المتّصلة بها كلّ طاقاتها، لدفع المسألة باتجاه تقسيم السّودان بين شمالٍ وجنوب، وليصار بعدها إلى تقسيم المقسَّم، وتفتيت المفتّت، في عملية استباحةٍ جديدةٍ للأمن العربيّ والإسلاميّ، ولثروات الأمّة الدّفينة، وقد بدأ بعض الأطراف السّودانيّين ممّن لهم علاقة بالمحاور الدّوليّة، بالتحدّث علناً عن الانفتاح المقبل على كيان العدوّ، بحجَّة أنّ العلم الصّهيونيّ يرفرف فوق القاهرة...

إنَّ هذه المعاينة للمشهد السّودانيّ، تقودنا إلى تلمّس الخطر فيما يُراد للأمَّة أن تغرق فيه من انقسامات، تبدو علاماتها واضحةً في اليمن الَّذي بات ساحةً من ساحات العبث الدَّوليّ، حيث تدخل إليه المخابرات الأمريكيَّة لتعبث به، إلى جانب كلّ الجماعات الّتي تحمل عناوين جهاديّة، أو تتّصل بمسائل عنفيّة، ليكون ذلك بمثابة المؤشّر حيال ملفّاتٍ أخرى في الأمّة، ومواقع عديدة فيها، معرّضة لهذا النّوع من الانقسام الّذي يتهدّد وحدة الأمّة، من حيث تهديده لعناصرها الوطنيّة والإسلاميّة ومواقعها الجغرافيّة.

ولا يبدو العراق في مشاكله السياسيّة الكبيرة، وأوضاعه الأمنيّة الّتي كانت ولا تزال من صناعة الاحتلال ونتائج غزوه، ببعيدٍ عن هذه الصّورة في معطياتها وحيثيّاتها، وخصوصاً أنّ عملية تشكيل الحكومة تخرج من مأزقٍ لتدخل في آخر، بعدما دخلت التَّجاذبات الإقليميَّة والدَّوليَّة مرحلةً معقَّدة، انعكست مزيداً من التَّعقيد أمنيّاً وسياسيّاً في الدّاخل، من دون أن تلوح بوارق الأمل في الآفاق، لأنَّه يُراد للعراق أن يبقى رهين اللّعبة الدّوليَّة، وأسير الأوضاع الإقليميَّة الّتي تدخل فيها المساومات على هذا الموقع أو ذاك، في محاكاةٍ للمطالب والشّروط الدّوليّة المفروضة من هنا وهناك.

لبنان: لشبكةِ أمانٍ عربيَّة وإسلاميَّة

أمّا في لبنان، الّذي استقبل في هذه الأيّام ضيفاً عزيزاً، وأخاً كريماً، آلى على نفسه إلا أن يقف إلى جانبه في قضاياه المصيريّة ومشاكله الاقتصاديّة، وأن يكون سنداً له في مواجهة المحتلّ.. فهو البلد الّذي ينبغي للجميع فيه أن يعرفوا من هم أصدقاء لبنان الحقيقيّون ومن هم أعداؤه، لأنّ القضيّة تتّصل بمصير البلد، ولا تتّصل بحركة المزاج، في أن يعمل كلّ فريقٍ محليّ على إنشاء مروحةٍ من العلاقات الخارجيّة الّتي لا تأخذ بالاعتبار واقع البلد ودوره في حماية قضايا الأمَّة ومواقعها الحيويَّة والاستراتيجيَّة.

ونحن في الوقت الّذي نؤكِّد أهميَّة استمرار إيران في دورها الَّذي أثبتت من خلاله أنَّها منفتحة على لبنان الدّولة، وعلى جميع الطّوائف والمذاهب والأطياف اللّبنانيّة، نريد للجميع في لبنان أن ينفتحوا عليها، لاستثمار ذلك كلّه لحساب قوّة لبنان ومنعته في مواجهة العدوّ وكلّ الطّامعين.

إنّنا نتطلّع إلى شبكة أمانٍ عربيّةٍ وإسلاميّةٍ تعمل على حماية لبنان من المشاريع الدّوليّة القادمة تحت عناوين قضائيّة دوليّة وغيرها. ولذلك، فإنّ المطلوب من اللّبنانيّين ألا يستغرقوا في جزئيَّات السِّجال السياسيّ المتواصل الحامل لكلِّ التّفاصيل المحليَّة، لأنّ الأمور هي أكبر بكثيرٍ من السِّجالات الدّاخليَّة الَّتي يتوزّع فيها الكثيرون أدوراً رُسمت لهم سلفاً. ولذلك، علينا أن نعمل جميعاً للوحدة، وأن نعدّ العدّة لمواجهة العدوّ الّذي يستعرض عضلاته العسكريَّة في المناورات الجديدة، حتَّى لا يسقط البلد فريسةً بيده، أو في أتون الفتنة القاتلة الّتي لا يمكن أن تكون إلا نقمةً ووبالاً على الجميع.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض) التاريخ: 7 ذو القعدة 1431 هـ الموافق: 15/10/2010 م

ليست هناك تعليقات: