4 أكتوبر 2010

القرآن قاعدة الوحدة الإسلاميّة


تعاني الحركات الإسلاميّة ـ في تنوّعاتها ـ من المشكلة المذهبيّة التي تأجّجت في الآونة الأخيرة بشكل ـ ربّما ـ لم يسبق له نظير في خطورته وتداعياته، ووضع الإسلاميّين كافّة على المحكّ لجهة وجود إمكانيّة واقعيّة ليشكّل الإسلام قاعدةً فعليّة لالتقاء هذه الحركات الإسلاميّة، أو أنّ المسألة تبقى في عناوين الإسلام العامّة التي إذا نزلت على الأرض تشعّبت وتنوّعت وأخذت تشكّلاتها من مصادر عديدة قد تختلف إلى حدّ التباين مع ما في المصادر الإسلاميّة في هذا المجال.

ويبدو جليّاً اليوم أنّ التأسيس الفعلي لأيّ تقارب بين الحركات الإسلاميّة من شأنه أن ينتشر لدى الجماهير كما تنتشر النار في الهشيم، وبلا تعقيدات أو جدليّات تفضي إليها الحوارات والمؤتمرات التي تكاد تكون عقيمة في مسألة الوحدة الإسلامية.

وعندما نتحدّث عن التقارب بين الحركات الإسلاميّة، فلا نقصد به التقارب السياسي، أو التقارب الجهادي فحسب، بل التقارب على المستوى الفكري بما يؤسّس ـ على الأقلّ ـ لتفهّم كل طرف لمنطلقات وقواعد اجتهاد الفريق الآخر ضمن المجال الإسلامي، بحيث يبتعد الأمر عن التكفير والإلغاء والشطب من الدائرة الإسلاميّة، واعتبار الالتقاء حالة راهنة تفرضها الظروف الضاغطة على كلّ فريق للتقوّي ـ عمليّاً ـ بالفريق الآخر، كما يتقوّى المسلم مع غير المسلم ضمن الأرضية المشتركة للتفاهمات والتحالفات في السياسة أو الأمن أو ما إلى ذلك.

وربّما بات واضحاً اليوم أنّ مسألة الوحدة الإسلاميّة لا تفرض نفسها ضمن سياسة التنازلات المتبادلة، أو سياسة التسويات التي تجعل الجميع «رضي الله عنه» بالطريقة الاستهلاكيّة التي تخفي وراءها كمّاً من السذاجة الفكريّة؛ لأنّ طبيعة الحريّة الفكريّة التي تضمنها حرّية الاجتهاد وحركته في الساحة الفكريّة في الإسلام من شأنها أن تُعبّر عن نفسها بأحكام معرفيّة لكلّ مجتهد على أفكار المجتهد الآخر بما قد يصل أحياناً إلى حدّ التكفير الفكري؛ وهذا ضمن الخطّ الفكري أمرٌ لا مشكلة فيه في حدّ ذاته ما لم يخرج عن مبادئ عديدة، كمبدأ حقن الدم الذي يعمّ كلّ المسلمين، مهما تباينت اجتهاداتهم؛ لأنّ فرضيّة الكفر لا تبرّر استباحة الدم، بل المسألة خاضعة للحرابة، وهذا مبدأ آخر يتّصل بالممارسة التي تعرّض الإنسانيّة للخطر كعنوان عريض لمسألة انتهاك حرمة حياة الإنسان أو عرضه أو ماله أو الإفساد في الحياة وما إلى ذلك.

وليس من شكّ أن محاولات الالتقاء المذهبي مرّت، ولا تزال، بانتكاسات متعدّدة، وصلت في السنوات القليلة الماضية إلى حالة من الخطورة باتت تنذر بانتكاسة إسلاميّة عابرة للمذاهب، يخرج بسببها الإسلام نفسُه تماماً من الواقع.

وأعتقد ـ كما الكثيرون ـ أنّ أسلوب التسويات أصبح جزءاً من المشكلة؛ لأنّه يضع مسألة التقارب المذهبي مرتبطةً بالظروف الموضوعيّة والتقاء المصالح؛ حتّى المقولات التي تؤسّس لتقبّل الآخر على قاعدة: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، أو «نتّحد فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه»؛ لأنّ المسألة مرتبطة بالذهنيّة التي نربّي فيها أنفسنا والجماهير، بما يحتاج إلى قاعدةٍ فكريّة يتبنّاها كلّ طرف، تؤسّس لمثل هذه المنهجيّة في التعاطي مع الاختلاف؛ لأنّ حركة المصالح في الواقع ستكون عرضةً لاختلافات التحديد تبعاً للاختلاف على الأولويّات بين المذاهب الإسلاميّة تجاه هذه القضيّة أو تلك؛ واختلافات التحديد تلك قد تؤدّي إلى تباينات في الحركة، وأحياناً إلى التصادم إذا ما برزت إلى الواجهة تحدّيات السلطة، سواء تلك المتعلّقة بالنظام السياسي أو بحركة التأثير على الجماهير.

وربّما يزيد المشكلة تعقيداً في هذا المجال، أنّ هناك تراثاً من المرويّات المنسوبة إلى النبيّ محمّد (ص) أو إلى أهل البيت، يعمّق الهوّة الفكريّة بين الفريقين، وأسّس لتبنٍّ فكريّ لدى علماء الفريقين، على امتداد التاريخ المحتقن بالصراع المذهبي، أفضى إلى إيجاد تراث من النتاج الكلامي والفقهي بات يشكّل أشدّ العقبات تحدّياً لأيّ تقارب مذهبي، حتّى في ظلّ أشدّ الحالات تحدّياً على مستوى المصير للطرفين معاً؛ بل سيشكّل ذلك مادّة دسمة لكلّ اللاعبين على الوتر المذهبيّ لتحريك الفتنة بين المسلمين، اعتماداً على عفويّة الجماهير، لتحريك مصالحهم التي تصطدم حكماً بمصالح أيّ من الطرفين.

هذا الأمر يفرض على الإسلاميّين، سواء انتموا إلى حركات إسلاميّة سنّية أو شيعيّة، البحث عن مرجعيّة أو إطار معياري على المستوى الفكري يُمكن أن يشكّل القاعدة المشتركة في حالة البناء الفوقي للحركة الإسلاميّة، بمعزل عن وجود طرف آخر يُبحث في إمكانيّة التقارب منه أو عدمه.

بتعبير آخر، الحركة الإسلاميّة بطبيعتها معنيّة بالبحث عن مرجعيّة فكريّة يبرّر وصفها بالإسلاميّة؛ سواء على مستوى المضمون والأهداف أو آليّات العمل؛ لأنّه ليس هناك من معنى للصق صبغة إسلاميّة بأيّ حركةٍ ما لم تكن خاضعةً في مضمونها وأهدافها وآليّات عملها لما يفرضه الإسلام في هذا المجال.

المرجعيّة المنطقيّة لذلك هي القرآن الكريم، وذلك باعتبارين:

الأوّل: أنّ القرآن الكريم هو الكتاب الموثوق مضموناً على مستوى اليقين، وهو بذلك يتميّز عن السنّة الشريفة التي هي ظنّية الصدور، ولا بدّ أن تكون منسجمةً مع القرآن وإلا طُرحت، وبالتالي يمثّل القرآن المرجعيّة الصحيحة لتحديد مدى وثاقة السُنّة.

الثاني: أنّ القرآن الكريم هو التأريخ الطبيعي للحركة الإسلاميّة التي بدأت مع النبيّ (ص) وتحرّكت مع المسلمين الذي كانوا معه، وبذلك تكتسب مرجعيّة القرآن ميزة إضافيّة في كونها تؤسّس لقواعد ذات بعد واقعي، وليست نظريّات افتراضيّة قد تكون بعيدةً في تطبيقاتها عن الواقع.

ويُمكن أن نضيف إلى ذلك أنّ هذه المرجعيّة يُمكنها أن تؤسّس لتقارب فعلي على مستوى القيم إلى حدّ كبير جدّاً، عندما تلتقي الحركات الإسلاميّة تفصيليّاً في عالم الأهداف والسياسات المنسجمة مع ما خطّه القرآن الكريم وألزم به أتباعه والمؤمنين به.

وهذا ما يفرض على جميع الحركات الإسلاميّة أن تقرأ القرآن الكريم قراءة واعية، لتتفهّم كلّ الآيات التي لها علاقة بما يجري على الأرض، ثمّ تقيس أفعالها وسلوكها على الأرض، لتدرس وتحدّد مدى انسجامها مع ما يطلبه الله تعالى في كتابه؛ فإن الانتماء للإسلام ليس بالشعارات، سواء كنّا سنة أو شيعة، بل هو حركة عمليّة على أرض الواقع، يقترب الإنسان من الإسلام بمقدار ما يطبّق، ويبتعد عنه بمقدار ما يطبّق أيضاً؛ والله من وراء القصد.

السيد جعفر فضل الله


ليست هناك تعليقات: