4 أكتوبر 2010

بين السلام الداخلي والبناء الروحي


لعلّ من الواضح من قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ...}[الأعراف : 43]، وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر : 47]، أنّه لا غِلّ ولا حقد في صدور أفراد مجتمع الجنّة، بل هو السموّ الروحي الذي يتناسب مع علوّ الجنّة وسموّها..

ولكن، قد نحتاج إلى التأمّل قليلاً في هذا النمط من الآيات؛ فهل هي مكافأة على دخول الجنّة؟ أم هي إشارة للمؤمنين أنّ الجنّة ـ في طبيعتها ـ غير متناسبة مع مشاعر الغلّ التي قد ينطوي عليها صدر الإنسان نتيجة عوامل الانغماس في الأنانيّة والتأثّر بوساوس الشيطان، ولذلك فعلى الإنسان إذا أراد دخول الجنّة أن يتخلّق بأخلاقها؛ فيكون وزان أمثال هذه الآيات أمثال ما ورد في الحديث: «إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء اللسان...».

وقد يبدو، في مزيد من التأمّل، أنّ على الإنسان ـ في كلّ الأحوال ـ أن يكون مهيّأً لتلقّي هذه المنّة الإلهيّة، وأن يعمل في حياته على أن ينزع ـ بتربية نفسه ومجاهدتها ـ الغلّ والحقد من صدره تجاه إخوانه من المؤمنين، وإلا فالمحلّ غير القابل لتلقّي المنّة لا يكون أهلاً لتحقّقها فيه فعلاً..

على أنّ لواحِدنا أن ينغمس في التحليل أكثر لحركة النفس من داخلها، فيُلاحظ بأنّ الله تعالى أراد للإنسان أن يَعبُده من خلال نفسه، بكلّ طاقاتها؛ بالعقل والقلب والجوارح؛ ففي الوقت الذي يُدرك فيه الإنسان عظمة الله بعقله، ينطلق بتفاعله الوجداني ليعمّق الشعور بالعظمة في نفسه، فيترقّى التفاعل مع مظاهر العظمة إلى مستوى الحضور الوجداني الذي يتحسّس فيه الإنسان العظمة من دون تحليل عقليّ واستدلال منطقيّ.. وهذا كلّه يحتاج إلى أن يتحرّك الجسد كلّه لينسجم مع كلّ ذلك، ليحصل على نتائجه.. وعلى هذا الأساس، قد لا نفصل هنا بين آثار الأخلاق التي يتخلّق بها الإنسان وبين مستوى الحضور الإيماني في الوجدان بالنحو الفاعل والمؤثّر؛ لأنّ النفس ذات طبيعة واحدة في انعكاس الآثار عليها؛ فإذا كانت تعاني من الضعف في جانبٍ، ولو كان مادّيّاً أحياناً، فقد يؤثّر ذلك على حضور الوجدان والخشوع.. ولعلّه لذلك أريد من الإنسان أن يحافظ على صحّته، وحُثّ الإنسان على القيام بكثير من المقدّمات التي تهيّئ النفس للدخول إلى عالم العبادة بالمزيد من الراحة النفسيّة..

وعليه فإذا أثقلت هذه النفس بالغلّ والحقد، فمن الصعب أن نتوقّع أنّها سترتقي إلى الله أكثر في عبادةٍ أو تأمّل أو ذكرٍ، بل سنجد أثر ذلك الحقد الذي يعبّر عن نفسه في العلاقات الاجتماعيّة موجوداً في علاقة الإنسان بربّه، وحتّى في علاقته بنفسه..

وربّما لأجل ذلك قد نجد أنّ الذين يعيشون السلام الداخلي هم، أكثر من غيرهم، القادرون على بناء علاقة أكثر سلامة مع الله تعالى، وأقرب إلى عناصر الطهارة والصفاء الشعوري الذي يُحتاج إليه كثيراً في صوغ الوجدان الإيماني المتفاعل..

ولعلّ هذا الأمر يمثّل مدخلاً أيضاً لفهم مدى الترابط ـ في الإسلام ـ بين الجانب الأخلاقي مع الناس وبين الجانب العباديّ في علاقة الإنسان بالله، وارتباط كلّ ذلك بالجانب التشريعي، وكذلك مدى الترابط بين الجانب المادّي والروحيّ في كلّ ذلك؛ والله من وراء القصد.

السيد جعفر فضل الله


ليست هناك تعليقات: