31 يوليو 2010

إحتفال تأبيني للمرجع الراحل في مدينة سيدني الأسترالية



أينما يممت وجهك في أرجاء مسجد الرّحمن وباحاته، ترى حبّ سماحة العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله (رضوان الله تعالى عليه) في وجوه الجميع، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، الّذين حضروا الاحتفال التّأبينيّ عن روحه الطّاهرة في مدينة سيدني في استراليا.

وإذ استحضر عرّيف الحفل، الحاج مصطفى حسن، تاريخاً من تاريخ، وورداً من ورد، وفكراً من فكر سماحة السيّد، تلا الحاج قاسم حنّاوي آيات بيّنات من كتاب الله الذي عاشه العلامة المرجع... عاشه ليفسّره وليعمل بهديه.

وبعد الذّكر الحكيم، ألقى قنصل لبنان العام في سيدني، روبير نعوم، كلمةً قال فيها: "تحيّةً لكم في عليائكم من الجالية اللّبنانيّة في نيو ساوث ويلز. من هيبة المقام، يعجز المتكلم عن إيفاء هذا العظيم حقّه في نبله وعلمه وتواضعه، في سيرته ومسيرته. اختاركم العليّ القدير إلى جواره، ولا يسعنا إلا الانحناء لإرادته. غيّبته المنيّة، والموت حقّ على الحياة، لكنه غياب للجسد أمّا فكره فباق، إذ إنّ حضوره ينبض في فكره واجتهاده. فقده لبنان في أصعب الظّروف. نحتاج طويلاً إلى العودة إلى نصائحه إرشاداته. ندرك أننا فقدنا صمام أمانٍ يحمينا ويحمي المستضعفين من الاستكبار. فقدان أحد حاملي مشعل الوحدة الإسلاميّة بوجه التمزّق. فقدنا أحد روّاد حوار الأديان المسيحي الإسلامي، إذ يبقى هذا الحوار هو السّلاح المدوّي في وجه العنصريّة الحاقدة".

وأضاف: "قبل 15 عاماً، زرت سماحة السيّد مرّتين في حارة حريك. ومنذ الزّيارة الأولى، شعرت بصدق أنّني أمام رجلٍ استثنائيّ، أنّني أمام شخصيّةٍ فذّة، علّامة مميّز في الشّؤون الدّينيّة والدّنيويّة، سندٍ للعدالة والمساواة".

وأكّد نعّوم للعرب والمسلمين في العالم، ضرورة متابعة التّضامن في وجه العنصريّة والإرهاب، "مقدّمين لبنان وطن الرّسالة لنعمّمه على الإنسانيّة، لترتاح روح صاحب السّماحة".

أمّا الشّيخ محمد الصّمياني، فألقى كلمةً أشار فيها إلى أنّ المصاب حلًّ ليس بالسّاحة الإسلاميّة، بل بالإنسانيّة جمعاء، لأنّه كان يتحرّك في الخطّ الإنسانيّ، حاملاً همومه أينما كان، فكان مع المظلومين والمحرومين.

وأوضح الصّمياني أنّه لا يمكن للإنسان أن يلمّ بهذه الشّخصيّة من جوانبها كافّةً، مستطرداً أنّه لا بدّ من الإشارة في هذا المقام إلى "قضيّةٍ مهمّة، وهي أنّ فقيدنا الكبير هو الفقيه المجدّد، والمفكّر الإسلاميّ المبدع، وقلّما يجتمع هذان الصّنفان لأحد. فالسيّد استوعب الإسلام، وانفتح على التيّارات كلّها في السّاحة الإنسانيّة، بما يملكه من معرفة إسلاميّة. فما تركه الرّاحل الكبير يعجز اللّسان عن الإحاطة به".

وقال: "إنّ منهج سماحة السيّد الفقهيّ، يعتمد أوّلاً على القرآن الكريم، باعتباره المصدر الأساس للفكر الإسلاميّ والثّقافة الإسلاميّة، بعكس الكثيرين من الفقهاء الّذين يستندون فقط إلى أحاديث المعصومين، وهذا ما يميّز السيّد، باستهدائه بآيات كتاب الله المباركة، وهو يبحث عن الحكم الشّرعيّ في أيّ واقعةٍ قد تطرأ".

وأضاف: "أمّا القضيّة الثّانية التي اعتمدها، فهي أنّه لم يتعقّد من المشهور، بل كان يناقشه بالدّليل والبرهان، فكان المعارض بجرأة وشجاعة. وعندما توصّل إلى بعض الآراء، راح بعض المتمسّكين برأي المشهور يهاجمون السيّد في ذلك. فنحن بحاجةٍ إلى مجتهدين من الفقهاء لا إلى مقلّدين. ولذلك، فإنّ بعض الفقهاء لا يتجرّؤون على مخالفة رأي المشهور. ولكنّ السيّد لم يقبل التعبّد بالمشهور، فنحن أتباع الدّليل أينما مال نميل. أمّا الأمر الثّالث الّذي اعتمده السيّد باستنباطه للأحكام الشّرعيّة، فكان اعتماده على المنهج العقلائيّ، مبتعداً عن المنهج العقليّ الفلسفيّ الرّياضي".

وتابع الصّمياني: "لقد فقدنا فقيهاً كان إذا ما توصّل إلى حكم، لا يماري ولا يداري. لقد فقدنا الفقيه الّذي لا يُعوّض، لأنّه كان الإنسان الّذي يحمل همّ الأمّة الإسلاميّة، سائلين الله أن ينعم علينا بملء الفراغ الكبير الذي خلّفه سماحته لاستكمال المسيرة".

بدوره، أكّد الشيخ جهاد إسماعيل في كلمته التي ألقاها باللّغة الإنكليزيّة، أنّ السيّد كان بحقّ آية الله العظمى، لأنّه فهم قضايا عصره، ووعى هموم الإنسانيّة، فلم يفسّر الدّين بالطّقوس والخرافة أو الأسطورة، بل أخرجه من هذه الكهوف.

ولفت إسماعيل إلى أن سماحة السيّد حمل مشعل الدّين بعيداً عن الانحراف. فلم يكن ليماري، بل كان يواجه الظّلم والفساد لتحقيق العدالة. لقد كان كجدّه الإمام عليّ(ع) في الإيمان بدين الله وعدم الاستسلام. وكما كان البوصلة التي توجّه النّاس بالعلم والمحبة... كان الإنسان الكبير والمفكّر الورع والمخلص والفقيه... كان العابد لله معشوقه الأوحد. لم يكن ليحمل حقداً على أحد... أحبّ الجميع... لقد علّم طلّابه ومريديه كالأب كي يعملوا عقولهم في كلّ شيء. رعى الأيتام فكان أباهم بحقّ. كان أباً لي، لأنّه كان إنسان الحوار، فاستفاد الجميع من حضوره ومن علمه.

وفي كلمته، قال الوكيل الشّرعيّ العام لسماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في أستراليا، سماحة الشيخ يوسف نبها: "أحمد الله وأشكره أنني عشت في الزّمن الذي عاشه سماحة السيّد، الّذي ملأ مرحلته علماً ووعياً وثقافة، فكان العقل المبدع. كلّ من جلس مع سماحة السيّد، وجد فيه المحاور المنفتح. تشعر وأنت في حضرته بإنسانيّتك، لأنّه كان يحترم إنسانيتك، منفتحاً على النّاس كلّهم، من رجال دين وسياسيّين ومثقّفين ورجال العمل الاجتماعي. لم يحمل حقداً أو حسداً حتى لو عاداه الآخرون... ولعلّني أستعير بحقّ سماحة السيّد ما قيل بحقّ الإمام عليّ(ع): "كتم مناقبه أولياؤه خوفاً، وأعداؤه حسداً، ثم ظهر من بين ذين ما ملأ الخافقين".

وأضاف: "ماذا أذكر فيك ومنك؟ أأذكر عقلك الرّاجح، أو رعايتك لما عجز الآخرون عن وعايته ورعايته، أو حنكتك في التّعاطي مع الأمور؟ كان سماحته صاحب العقل الحرّ، وكان إذا أراد أن يأخذ أيّ حكمٍ أو فتوى، لا يداهن، فلم يقلّد الآخرين تقليداً أعمى، ولم يكن إمّعة، بل كان يصغي ويفكّر وفق مع وصل إليه عقله. وإذا أردت أن تعتبره من المجتهدين، لقلت إنّه كان مجتهداً مجدّداً، لأنه لم يكن مقلّداً تقليداً أعمى. لقد كان يعيش إنسانيّته بعيداً عن البروتوكولات المرجعيّة. فالناس كانوا يرون فيه هذا الطّهر والعنفوان كلّه، لأنه كان يعيش معهم كلّ صغيرة وكبيرة. لم يكن ليجلس في بيته منزوياً بعيداً عن النّاس، بل كان يشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، إذ كان يرى أنّ من مسؤوليّته أن يفتح العقول لتتنفّس في رحاب الله".

وتابع: "عندما كنّا ندخل إلى مجلسه الخاصّ، كنا نجد عنده الكبير والصّغير، ولقد شاهدت أطفالاً بعمر الثّمانية وهم يسألونه وهو يجيبهم. كذلك كان نصير المرأة ضدّ الذّكوريّة التي يعيشها البعض من خلال الإساءة إليها بالضّرب وغير ذلك من الإساءات. كان السيّد أوّل من صلّى وخطب بالنّساء في بئر العبد، إذ كان (رضوان الله عليه) يخطب ويصلّي بالرّجال بداية، ثم بالنّساء تالياً. لقد كان يقتدي برسول الله محمّد(ص)، وعليّ(ع) يصف النبي (ص) بأنّه: "طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صمّ، وألسنةٍ بكم... متتبّع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة...".

وأنهى نبها كلمته: "لقد كان سماحة السيّد، المحاضر في المحافظات الّلبنانية كلّها، وفي الجامعات والمراكز الثقافيّة. كان الإنسان الإنسان الّذي يراقب كلّ صغيرةٍ وكبيرة، فكان يعيش آمال الإنسان وأحلامه، ويساعده على ذلك. فالسيّد كان حريصاً على العمل، وتأسيس ما يوفّر للنّاس حاجاتهم العلميّة والرّوحيّة والاجتماعيّة... ولذلك سنعمل بوصاياه، وليقل الآخرون ما يشاؤون.

وفي الختام، تلا السيّد محمد الموسوي مجلس عزاء حسينيّاً.

ليست هناك تعليقات: