3 سبتمبر 2009

لهذه الأسباب ردّ المرجع فضل اللّه على البطريرك صفير
لا وجود لمقدّسات تحول دون مناقشة أيٍّ كان

كتب: حسن علّيق

لم تهدأ بعد الموجة التي خلّفها كلام المرجع الشيعيّ، السيّد محمّد حسين فضل الله، الّذي وجّهه قبل 3 أيام ردّاً على قول البطريرك الماروني نصر الله صفير: "إنّ على الأكثرية أن تحكم وعلى الأقلّية أن تعارض". فخطاب فضل الله استدعى ردود فعلٍ من عددٍ كبيرٍ من الأطراف السياسيّين المسيحيّين. النّائب نديم الجميل قال أمس إنّ كلام فضل الله يأتي في سياق استهداف المواقع المسيحيّة. ووافق رأيه بيان الأمانة العامّة لقوى 14 آذار في اليوم السّابق، التي استنكرت كلام فضل الله من دون أن تسمّيه، ووضعته في خانة «الحملة المبرمجة» التي يتعرض لها البطريرك.

في الأصل، لم يعتد الوسط السياسيّ اللّبنانيّ دخول المرجع الشيعيّ الأبرز في لبنان في مواجهة سياسيّة مع أيٍّ كان. وعُرِف الرّجل على مدى العقود الثّلاثة الماضية بهدوء خطابه السياسيّ والدينيّ وانفتاحه. فما الّذي استدعى منه هذه النبرة الحادّة؟

بحسب بعض المراقبين المطّلعين على ما يدور في حارة حريك، فإنّ لفضل الله ثلاثة ثوابت في حركته العامّة: المقاومة، والانفتاح، والحفاظ على الطائفة الشيعيّة ودورها في لبنان.

في الأولى، ومنذ أن بدأ الحراك الإسلاميّ المقاوم للاحتلال الإسرائيليّ بعد عام 1982م، خرج من تحت عباءة السيّد عددٌ كبيرٌ من كوادر ما بات يُعرَف اليوم باسم «حزب الله». إلا أنّ أيّ علاقةٍ تنظيميّةٍ أو عمليّةٍ لم تربط فضل الله بالمجموعات المقاومة، من دون إغفال الاحترام الكبير الذي كان يحظى به بين أفرادها ومسؤوليها. ويحفظ الحزب لفضل الله جيّداً مواقفه الحازمة إلى جانب المقاومة، التي لم يكن آخرها ما جرى في حرب تموز 2006م، التي شهدت قصف الطّائرات الإسرائيليّة لمنـزله في حارة حريك ولعدد من مؤسّسات جمعيّة المبرّات التّابعة له. وبعدما اتخذت حكومة فؤاد السنيورة السابقة قراريْها الشّهيرين يوم 5 أيار 2008م، كان فضل الله أحد الرباعيّ (هو، والرئيس نبيه بري، والشّيخ عبد الأمير قبلان، والأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله)، الذي كوّن مظلّةً شيعيّةً لتحرّك 7 أيار.

انزعج فضل الله من كلام صفير قبل الانتخابات، إلا أنّ كلام البطريرك الأخير كان «شديد الخطورة».

أمّا الثّابتة الثانية (الانفتاح)، فميّزت الرجل في البعدين الدّعويّ والسياسيّ منذ عودته من النّجف إلى لبنان في ستينات القرن الفائت. وأثار المرجع الديني، منذ حمله لقب «آية الله العظمى»، جدلاً لم ينته بعد داخل الأوساط الدينيّة الشيعيّة في لبنان والخارج. إذ إنّ عدداً كبيراً من الفتاوى والآراء الفقهيّة التي أصدرها، مثّلت خروجاً على السّائد الشيعيّ (بعض القضايا المتعلّقة بالمرأة، ومنها ما يتعلّق بالأذان والإقامة، وأخرى بمواقيت الصلاة، فضلاً عن بعض ما يُقال في العقيدة عن الإمام ودوره في الحياة...). وانطلق فضل الله من مصادر التّشريع ذاتها التي يستند إليها الشّيعة، إلا أنّه رفض وضع حدودٍ أمام حركة العقل.

وفي السياسة، لم يضع «السيد» حواجز في نقاشاته مع أيٍّ من الأطراف، ومنها تلك التي لم تكن على وئامٍ مع الوسط السياسيّ الإسلاميّ، (كاستقباله الرئيس الأميركي جيمي كارتر، مع احتفاظه بمواقفه الثّابتة الرافضة للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط).

في الثالثة، يُعَدّ الرجل أحد أبرز المراجع الشيعيّة في العالم، مع أنّ خطابه طوال العقود الثلاثة الماضية كان انفتاحيّاً وبعيداً عن كلّ ما يثير النعرات، سواء على الصعيد الإسلاميّ، أو على صعيد العلاقات مع أتباع الديانات الأخرى. وكان الرجل مضرب مثلٍ في فقه التّسامح.

لكنّ «السيّد» ينطلق من أساس التشيّع والحفاظ على الطّائفة الشيعيّة في لبنان ودورها، سواء في الحياة السياسيّة أو المجتمعيّة عموماً. وكان أحد الذين أسهموا في تكوين الهويّة السياسيّة للطّائفة الشيعيّة في لبنان، وإلصاق هذه الهوية بالكيان اللّبناني، رغم معارضته في البداية إنشاء المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى.

ومن هذه المنطلقات الثلاثة، يقول أحد المتابعين لعمل فضل الله، يمكن فهم ردّه على كلام البطريرك الماروني نصر الله صفير. فالأقلّية النيابيّة تتألّف على نحوٍ رئيسيّ من الأكثرية الشيعيّة وما يزيد على نصف المسيحيين. «وإذا كان البطريرك يريد للأقلّية أن تبقى خارج الحكومة، فمعنى ذلك أنّ التمثيل السياسيّ للشيعة سيبقى بعيداً عن الحكم. وفي ظل النظام الطائفي السائد، لا يمكن القبول بطرحٍ مماثل. وفضلاً عن ذلك، كان السيد منـزعجاً من كلام البطريرك قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، الذي شكّك فيه بعروبة جزءٍ كبيرٍ من اللّبنانيين، إلا أنّه فضّل عدم الخوض في سجالٍ مع أحد. كذلك، كرّر البطريرك أكثر من مرّة الحديث عن الخطر الذي يمثّله البعض على الهويّة اللّبنانيّة. وكان تصريحه الأخير أكثر خطورةً من الأوّل، في ظلّ النّظام الطائفيّ القائم في لبنان، فاقتضى الردّ عليه من مرجعية روحيّة كبيرة، من دون الدخول في سجالٍ مع أحد».

ويقول أحد عارفي السيّد، إنّ «البعض في لبنان يستسهل الردّ على الأنبياء، ويضع كلام بعض الشخصيّات في إطارٍ من القداسة لا يجوز المساس به». أمّا بالنسبة إلى فضل الله، فلا وجود لمقدّساتٍ تحول دون مناقشة أيٍّ كان، وهو الّذي لم يشعر يوماً بالحرج من خوض غمار الآراء الفقهيّة التي كانت تُعَدُّ مسلَّماتٍ لقرون طويلة. ويستغرب المصدر ذاته «أن تقوم القيامة في وجه فضل الله لأنّه ردّ بالسياسة على كلام سياسيّ، وخصوصاً أنّ صفير أخرج نفسه من دائرة الحياد، ودخل طرفاً في المعارك السياسيّة والانتخابيّة»، سائلاً عمّن «أعطى الحقّ لصفير بأن يدلي بآراء سياسيّة ومَنَع هذا الحقّ عن غيره؟ إلا إذا صدّق البعض أنّ مجد لبنان أُعطي لأحدٍ دون غيره. وإذا كان صفير يريد التحدّث بالسياسة، فعليه أن يتوقّع نقاشاً معه، سواء في الغرف المقفلة، أو من خلف الشّاشات، أو من على المنابر».

ليست هناك تعليقات: