25 أكتوبر 2009

في موقفٍ له بشأن حال السّقوط التي تعانيها الأمّة والاستقالة من مواجهة التحدّيات
فضل الله: يجب شرعاً إطلاق حركة المقاومة مجدّداً، بعد تأصيلها في الأدبيّات الشّرعيّة والحركة العسكريّة

دعا العلامة المرجع، السيّد محمَّد حسين فضل الله، إلى تأصيل فعل المقاومة والتّحرير في حركة الأمّة، ولا سيّما العسكريّة منها، من خلال الأدبيّات الفقهيّة التي تمّ التّوافق عليها في مدى تاريخ التّفكير الفقهيّ الإسلاميّ، مشيراً إلى أنّ ما يواجهه الفلسطينيّون من إعلان العدوّ الحرب عليهم، ومن اغتصاب أرضهم، يفرض من باب المشروعيّة، بل من باب الوجوب الشّرعيّ، إطلاق المقاومة المسلّحة ضدّ هذه الحرب المعلنة.

وشدّد سماحته على ضرورة انخراط الحركات الإسلاميّة وغير الإسلاميّة في خطّ المقاومة ضدّ العدوّ، مؤكّداً أنّ الإسلاميّين وغيرهم لا يخطئون عندما تصوّب بنادقهم نحو الكيان الصهيونيّ.

ودعا سماحته إلى معالجة الحالة التي تعيشها الأمَّة، والّتي تظهر أبرز معطياتها من خلال: الاستقالة من مواجهة التّحدّيات، وفقدان الثّقة بالنّفس، والعمل على تكريس حال الانقسام داخل الأمّة.

أدلى سماحته ببيانٍ تطرّق فيه إلى المشاكل التي تعتري الأمَّة، مقدّماً تصوّره للحلول وكيفيّة مواجهة هذه المشاكل، وجاء في البيان:

لقد بات واضحاً أنّ كلّ ما يجري اليوم على عالمنا الإسلاميّ والعربيّ، من ويلاتٍ ومحنٍ ومؤامراتٍ وفتنٍ وانقسامات، لا يُمكن عزله عن حال السّقوط التي تعيشها الأمّة من أقصاها إلى أقصاها، والّتي عبّرت عن نفسها في أكثر من اتّجاه:

الأوّل: الاستقالة من مواجهة التّحدّيات الّتي تفرضها كلّ القضايا الكُبرى، والرّضا بالعيش خارج إطار الفاعليّة التّاريخيّة، ليأخذ العالم العربيّ والإسلاميّ، عموماً، دور المنفعل بما تتحرّك به القوى الكُبرى المستكبرة، بدءاً من قضيّة احتلال فلسطين، إلى حركة الاحتلالات الّتي تتابعت تجاه أكثر من بلدٍ إسلاميّ أو عربيّ، وآخرها ما شهدناه من احتلال الولايات المتّحدة الأمريكيّة لأفغانستان، ثمّ العراق.

وفي هذا الاتّجاه، فقدنا أيَّ شعورٍ بضرورة العمل الإسلاميّ أو العربيّ المشترك للتّحرير في امتداد المواقع المحتلّة في العالم العربيّ والإسلاميّ.

الثّاني: فقدان الثّقة بالنّفس إلى الدّرجة التي سلّم فيها كثيرٌ من العرب والمسلمين إراداتهم لحركة الإرادة الدوليّة، وأصبحوا يخافون من أن يُضبَطوا متلبّسين بورقةٍ من أوراق القوّة؛ وهذا الّذي انعكس ضغطاً في أكثر من مجالٍ على قوى المقاومة والممانعة للتخلّي عن أوراق القوّة، ودفع أحياناً إلى التّواطؤ مع العدوّ عليها؛ وهذا الاتّجاه شهدنا نحواً منه تجاه المقاومة الفلسطينيّة واللّبنانيّة، أو تجاه المقاومة العراقيّة التي تصوّب بندقيّتها نحو الاحتلال الأمريكيّ فقط.

الثّالث: العمل على تكريس حال الانقسام داخل الأمَّة، والسّماح للاعبين الدّوليّين وغيرهم باللّعب على أوتار الخلاف المذهبيّ أو العرقيّ في أكثر من مجالٍ عربيّ وإسلاميّ، ما أدّى ـ بالتّالي ـ إلى حال انكشافٍ للأمّة في كثيرٍ من مواقعها أمام مخطّطات العدوّ الإسرائيلي، ومن ورائه القوى المستكبرة التي جعلت سياساتها في المنطقة تتحرّك في فلك السياسة الإسرائيليّة بشكلٍ وبآخر.

وقد رأينا كيف انساق كثيرٌ من العرب إلى اللّعبة الاستكباريّة، ليخترعوا لهم عدوّاً جديداً اسمه إيران، في ظلّ حال الإثارة المذهبيّة تارةً والقوميّة أخرى، ما أمّن حالة تغطيةً لكلّ ما يُراد أن يُطبخ على نارٍ هادئة تجاه قضيّة فلسطين بالذّات، إضافةً إلى ما يتحرّك في العراق وأفغانستان وما إلى ذلك.

وقد بدأ كلّ ذلك يؤثّر سلباً في ذهنيّة الأمّة، وكأنّ الشّعوب اليوم أصبحت أيضاً تخاف من تبعات امتلاك أيّ ورقةٍ من أوراق القوّة، سواء من خلال المقاومة، أو من خلال مشاريع الاكتفاء الذاتيّ، كما نشهده في مسألة الملفّ النوويّ السّلميّ الإيرانيّ؛ إلى الدّرجة الّتي أصبح الكثيرون منّا يبرّرون قهر الأعداء لهم وظلمهم وتدميرهم، وكلّ حالات الدّفع لفرض الأمر الواقع عليهم، والتّنكّر لكلّ المواثيق والعهود التي تمّ الاتفاق عليها سابقاً ـ بقطع النّظر عن تقويمنا لها ـ؛ وكأنّ جزءاً كبيراً في الأمّة أصبح يتحرّك بذهنيّة الإنسان المقهور والمسلوب الذي يُغري الآخرين بإذلاله أكثر، واستعماره أكثر، واحتلاله أكثر.

وإنّنا أمام هذا المشهد الّذي نرى تداعياته المستقبليّة على أمّتنا بأمّ العين، نرى لزاماً على الطّلائع الواعية في الأمّة التحرّك على أكثر من مستوى وصعيد:

أوّلاً: استعادة الأصالة الثّقافيّة والفكريّة التي تؤكّد عناصر القوّة في شخصيّة الأمّة، وتؤكّد أيضاً عزّتها وكرامتها بين الأمم، وقدرتها على أن تحقّق مستوى طليعيّاً في الفاعليّة التّاريخيّة في بناء الإنسان والمستقبل، على أساس القيم الأخلاقيّة والرّوحيّة التي أكّدتها الرّسالات السّماويّة، ولا سيّما الإسلام الحنيف. وهذا ما ينبغي أن ينزل من صفوف النّخبة إلى واقع الشّعوب؛ ليؤسّس لاحقاً لتجانسٍ في الحركة، بحيث تتكامل فيها القيادات مع قواعدها الحركيّة.

ثانياً: تأكيد أهمّية وجود التنوّع في حركة الأمّة، سواء في المستوى الفكريّ أو الحركيّ، والعمل على ضبط حركة هذا التنوّع ضمن توحيد الأهداف الكُبرى الّتي ينبغي أن يسعى إليها الجميع، كلٌٌّ من خلال موقعه وخصوصيّاته.

ثالثاً: تصدّي الحركات الإسلاميَّة والطّلائع الواعية في الأمّة للشّأن العامّ بالنّحو القويّ والفاعل، ما يشكّل أرضيّةً مؤاتيةً للضّغط على حركة الأنظمة السياسيّة في بلادنا، في الاتّجاهات التي تجعلها ترقى إلى مستوى الشّعوب؛ فتقلّ بذلك الفجوة بين حركة الحكومات وتطلّعات الشّعوب؛ وهذا يتطلّب أن يأخذ الإسلاميّون وغيرهم بأسباب المعاصرة، سواء في الخطاب أو في الحركة، من موقع الأصالة التي تتحرّك وفق مسار الاجتهاد المتجدّد؛ لأنّ ذلك يمثّل أساساً مهمّاً في المساهمة بفاعليّة في قلب الواقع السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والأمنيّ وما إلى ذلك، بعيداً عن مقاربته من خارج أدواته؛ وقد طرحنا سابقاً أنَّ الأصل هو العمل على تغيير الواقع بأدوات الواقع، وهو معنى الواقعيّة.

رابعاً: تأصيل فعل المقاومة والتّحرير في حركة الأمّة، ولا سيّما العسكريّة؛ وذلك من خلال الأدبيّات الفقهيّة التي تمّ التّوافق عليها في مدى تاريخ التّفكير الفقهيّ الإسلاميّ، دون فرقٍ بين السنّيّ والشّيعيّ وغيرهما، ولا سيّما أنّ أحداً اليوم لا يُناقش أبداً في أحقيّة أيّ شعبٍ أو أمّة في أن يُدافعوا عن أنفسهم عندما تُعلَنُ الحرب عليهم، أو عندما تُحتلّ أرضهم، وذلك بأن يردّوا العدوان بمثله، وأن يقاوموا احتلال الأرض في عمليّة التّحرير بكلّ الوسائل المُمكنة. والّذي يحصل اليوم، هو أنّ العدوّ الإسرائيليّ يُعلن حالة الحرب على الفلسطينيّين من جهة، وعلى الأمّة من جهةٍ أخرى، ما يفرض من باب المشروعيّة، بل من باب الوجوب الشّرعيّ، العمل على إطلاق حركة المقاومة المسلّحة من جديد ضدّ هذه الحرب المعلنة، كحركة ردّ عدوانٍ ووقايةٍ في المستقبل، هذا فضلاً عن وجوب تحرّك أشكال أخرى للمقاومة على المستوى السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والأمنيّ وما إلى ذلك.

إنّ من السّذاجة بمكانٍ النّوم باطمئنان إلى جانب هذا العدوّ الّذي أثبت أنّه رمز العدوان الأوّل على الإنسان والمقدّسات ـ والإنسان من أقدس المقدّسات في الإسلام وسائر الأديان ـ وأنّه هو الّذي يتحرّك في خطّة دائمةٍ لتدمير واقع الأمّة، عربيّاً وإسلاميّاً، وأنّه ليس بالّذي يُمكن الرّكون إليه في أيّ عمليّة تفاوض أو اتّفاق أو ما إلى ذلك؛ لأنّ أهدافه التوسّعية لا زالت هي هي، واستكباره العنصريّ يكمن في عمق أدبيّاته الدينيّة وغيرها، وروحه التّدميريّة متأصّلة في جذوره، بما يجعله حركةً متجدّدة في العداء للإنسانيّة والقيم الرساليّة القائمة على العدل والخير والتّسامح للإنسان كلّه.

خامساً: إنّنا ـ ضمن هذا المسار ـ ندعو الحركات الإسلاميّة كلّها، وغير الإسلاميّة أيضاً، ودون استثناء، إلى الانخراط في خطّ المقاومة ضدّ هذا العدوّ؛ والّذي أثبتت الوقائع والتّجارب أنّه ميزان حركة كلّ القوى الكبرى المستكبرة السياسيّة والاحتلاليّة وغيرها، في كلّ مواقعنا العربيّة والإسلاميّة. ولذلك، لا يخطئ الإسلاميّون، مهما اختلفوا يميناً وشمالاً، عندما يصوّبون البندقيّة نحو الكيان الصّهيوني الغاصب؛ وسيجدون في الطّريق، أنّ كلّ حالات الاختلاف المذهبيّ أو الدّينيّ أو الفكريّ أو السياسيّ، لا يُمكن أن تقف عائقاً أمام إنتاج حالة مقاومةٍ شاملةٍ في الأمّة، بل إنّها تُكسب الأمّة تنوّعاً في عمليّة بناء القوّة في مواقع مختلفة.


مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

التاريخ: 29 شوال 1430 هـ الموافق: 18/10/2009 م





ليست هناك تعليقات: