25 أكتوبر 2010

وفد تركيّ زار ضريح العلامة المرجع فضل الله :
هو عنوان نهضة الإسلام







بيروت: أكّد العلامة السيّد علي فضل الله، أنّنا نتطلّع لدورٍ تركيّ رائدٍ في دعم قضايا الأمّة المحقّة، مشيداً بالشّعب التّركيّ الذي أثبت أنّه لا يزال حاضراً أمام التحدّيات التي تتّصل بحركة الإسلام على مستوى العالم.

قام وفدٌ من التجّار الأتراك بزيارة ضريح العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، حيث تلا الفاتحة عن روحه الطّاهرة، وكان في استقبال الوفد العلامة السيّد علي فضل الله وعدد من أركان المكتب.

وتحدّث باسم الوفد رجل الأعمال محمّد عاكف، فأشاد بمواقف السيّد فضل الله الدّاعمة للقضيّة الفلسطينيّة والشّعب الفلسطينيّ، مشيراً إلى أنّ الشّعوب الإسلاميّة أحبّته، لأنّه كان صوتاً للوحدة الإسلاميّة، وعنواناً لنهضة الإسلام، وعلماً من الأعلام الّتي آلت على نفسها أن تلاحق كلّ ما يتعلّق بمصير الأمّة وقضاياها، مشدّداً على أنّ السيّد فضل الله أعطى الكثير للإسلام، وأنّه يستحقّ التّكريم على مستوى الأمّة كلّها.

وتحدَّث العلامة السيِّد فضل الله مرحِّباً بالوفد، قائلاً إنَّ "المحبَّة الّتي تربطكم بسماحة السيِّد الرَّاحل، هي جزء من هذا التَّواصل الإسلاميّ، ومن هذا الانفتاح على قضايا المسلمين، الَّذي كان سماحة السيِّد يؤكِّده دائماً".

أضاف: "إنَّكم تمثِّلون صورةً عن الشَّعب التّركيّ الطيِّب الّذي أثبت أنَّه لا يزال حاضراً أمام التحدّيات الّتي تتَّصل بحركة الإسلام على المستوى العالميّ، والّذي يتطلَّع إلى وحدة الأمَّة، ويرى في وحدة المسلمين قوّةً ضروريَّة، كما يرى في تقديم النّموذج الإسلاميّ الحضاريّ ضرورةً كبرى، حتى يتعرَّف العالم إلى الوجه المشرق وغير المشوَّه للإسلام".

وأكَّد أنَّنا نتطلَّع إلى دورٍ رائدٍ لتركيا على مستوى المنطقة، لجهة نصرتها لقضايا الأمَّة الحقَّة، شاكراً شريحةً كبيرةً من المثقَّفين الأتراك بكتب سماحة السيِّد فضل الله الّتي تُرجمت إلى اللّغتين التّركيَّة والإنكليزيَّة.


17 أكتوبر 2010

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:


الخطبة الأولى

إتقان العمل قيمة إسلامية كبرى


قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ}[الملك: 1-3] .

"الأحسن" قيمة قرآنيَّة

"الأحسن" هو العنوان الّذي عبَّر به الله عن ذاته المقدَّسة: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}[الأعراف:180]، وهو الصّورة الَّتي أشار إليها عندما تحدَّث عن خلقه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ...}[النَّمل: 88].

فأينما ولَّيت وجهك، لا تجد خللاً ولا تفاوتاً ولا اضطراباً: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} [الملك: 3].

والإنسان؛ هذا المخلوق الّذي أسند اللّه إليه خلافته في الأرض، ليبعث الحيويّة فيها.. أبرزه الله بالصّورة الأحسن: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التّين: 4].

وهذا الأحسن نراه في أنبيائه وأوليائه الّذين عندما أرسلهم إلينا، أدَّبهم فأحسن تأديبهم، وطهَّرهم من الرّجس فأحسن تطهيرهم، وفي حديثه لعباده: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ...}[الزّمر: 23]، {كتابٌ أُحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير} [هود:1]، والله سبحانه عندما اختار لنا القصص، اختار أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ...}[يوسف: 3]، وأتمَّ علينا أحسن النِّعم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا...}[المائدة: 3].

فالأحسن، وليس مجرّد الحسن، هو الّذي أراده الله سبحانه أساساً لحركة عباده، وهو ما سيحمّلهم مسؤوليّته ويحاسبهم عليه يوم القيامة، فهو الّذي قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الملك: 2].

فالموقف بين يدي اللّه عزَّ وجلّ، لن يكون عنوانه من هو «الأكثر عملاً»، بل من هو «الأحسن عملاً»، أي الأصوب في عمله، والأكثر جودةً وإتماماً وإكمالاً وإتقاناً، وعلى أساس ذلك سيحاسبنا.

الأسلوب والعمل الأحسن

وقد أراد الله لهذه القيمة، "الأحسن"، أن ترافقنا في كلِّ ما نقوم به، ومهما كان: قولاً، أو مظهراً، أو حركةً، أو صنعةً، أو علماً، أو عملاً...

فالله يريدنا في قولنا، كما في استماعنا، أن نكون الأحسن: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزّمر: 18]، وأن يكون حوارنا هو الأحسن: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النّحل: 125]، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46]، وفي التّعامل مع أموال الآخرين: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الأنعام: 152].

وفي معالجة الأمور، لا بدّ من أن تعالَج بالأسلوب الأحسن: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت:34]. وعند التحيَّة، لا بدَّ من أن يكون ردّنا هو الأحسن: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا}[النّساء: 86].

والعمل الأحسن، هو ما حرص رسول الله(ص) عليه عندما دعا إلى العمل المُتقن، العمل المدروس والمحكم والمتميِّز، ولذا ورد: «لا يكن همّ أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همّه في إحكامه وتحسينه». وكان(ص) دائماً يؤكِّد: «إنَّ الله يحبُّ المحترف الأمين». وفي هذا الحديث، أريدكم أن تلاحظوا تأكيد رسول الله(ص) عدم كفاية الأمانة، بل لا بدَّ من الاحتراف، لأنَّه لا يكفي للمرء أن يكون أميناً، على أهميَّة هذه القيمة، بل ينبغي أن يرافق ذلك الاحتراف والعلم والخبرة والدقَّة. وتنقل لنا السِّيرة عن رسول الله(ص) أنَّه عندما رأى في لحد ولده خللاً سوَّاه بيده، ثم قال: «إنَّ الله يحبُّ إذا عملَ أحدكم عملاً أن يتقنه». وحتّى في الكفن حيث قال: «إذا كفَّن أحدكم فليحسن كفنه، وفي القبر احفروا وأعمقوا وأحسنوا».

والمَواطِن والأحكام الَّتي دعانا فيها الرَّسول(ص) إلى العمل بصفة "الأحسن" كثيرة، وهي تمتدّ لتتحرَّك في كلِّ الميادين، وقد اعتبر الإتقان أساساً في بناء شخصيَّة الإنسان المسلم.

مسؤوليّة شرعيّة

وقد حرص الإسلام على أن لا تتحوَّل الجودة ولا يتحوَّل الإتقان إلى أمرٍ اختياريّ مزاجيّ، فقد حمّلت الشّريعة الإسلاميّة الّتي جاء بها النبيّ(ص) المسؤوليَّة للّذي لا يتقن عمله، واعتبرته غير معذورٍ عند قيامه بأمرٍ هو غير قادرٍ عليه؛ فالطّبيب والمهندس والإداريّ والسياسيّ والأستاذ، وحتّى عالم الدّين والمربّي وغيرهم، كلٌّ يتحمّل المسؤوليّة، كلّ المسؤوليّة، عن الأخطاء الّتي يرتكبها، والهفوات الّتي يقوم بها، إذا ما تصدَّى لأمرٍ هو غير مؤهَّلٍ له، لأنَّ نتيجة عمله سيكون بها خلل، وانعكاسها قد يكون كبيراً وخطيراً، ومسؤوليّته في ذلك لن تكون فقط أمام النّاس، بل أمام الله، حيث سيواجه المسؤوليّة، عندما يأتي النّداء: {وقفوهم إنّهم مسؤولون}[الصافات: 24].

وقد استطاع المسلمون من خلال قيمة الأحسن الّتي ربّاهم الإسلام عليها في العبادات والمعاملات، وحتّى في أسلوب قراءتهم للقرآن، أن يصنعوا كلَّ هذا المجد الّذي صنعوه في التّاريخ، على مستوى الفكر والحضارة، وكان لهم كلّ هذا التألّق، ولا تزال آثار إتقانهم واضحةً في البناء وما تركوه من علمٍ ومعرفة.. وإذا انكفأ المسلمون اليوم، فلأنّهم ضيَّعوا هذه القيمة وأبعدوها عن قاموس حياتهم، وأصبحت الأمور تجري عندهم كيفما كان.

أيّها الأحبّة: إنّنا نعاني في واقعنا من غياب الإتقان، في كلّ مواقع المجتمع، بحيث بتنا لا نطمئنّ إلى أيّ طبيبٍ أو مهندسٍ أو حرفيّ أو مهنيّ، حتّى لو كان هؤلاء يحملون شهادات جامعيّة أو شهادات خبرة. وبتنا نشعر بالخوف من بضاعةٍ محليّةٍ، ولا نثق بدقّة صنعها وإتقانها، ونطمئنّ أكثر إلى بضاعةٍ أجنبية، وأصبحنا نتيجةً لذلك، نعاني من عدم الثّقة بأنفسنا، رغم أنّنا نملك الكثير من القدرات والإمكانات لنتقن ونبدع، مع أنّ العالم الغربي هو أيضاً بدأ يشهد اهتزازاً في صورة الكفاءة المشهود له بها، حيث حوادث الطّائرات تزداد، والخلل في التّصنيع يطال ملايين السيّارات الّتي تحدّث عنها الإعلام أخيراً، ولكنّه يرى هذه الأخطاء ويعترف بها ويسعى لتصحيحها، لا لطمسها كما نعاني في واقعنا.

إنّنا بحاجة إلى إعادة النّظر في كلّ هذا الواقع، وأن نسعى لعلاجه، حتّى نعيد الثّقة بأنفسنا، وحتى نعود إلى السّير بركب الحضارة، ولنخفّف الكثير من توتّراتنا الّتي تحدث نتيجة عدم الدّقّة في عملنا والإتقان فيه.

معالجة أسباب التّقصير

أيّها الأحبّة: إنّنا في أوطاننا ومجتمعاتنا الصّغيرة لا نستطيع أن نعالج مشكلة غياب الإتقان إلا إذا عرفنا وعالجنا الأسباب المؤدّية إليه، وهي كثيرة: منها الكسل، وعدم الرغبة في العمل، والسّرعة في الأداء، ومنها عدم التّفكير في المصلحة العامّة للنّاس، بحاجاتهم وآلامهم وآمالهم، والرّغبة بالكسب السّريع. وقد يكون السّبب عدم الصّبر على العمل الدّقيق والتأنّي فيه، فالإتقان يحتاج إلى صبرٍ وتأنٍّ بالدّرجة الأولى.. وهنا يحضرني قول الشّاعر:

وما كُلُّ هاوٍ للجميل بفاعِلٍ ولا كُلُّ فعّالٍ له بِمُتَمِّمِ

وأضف إلى ذلك من أسباب غياب الإتقان، عدم المعرفة أو نقصانها، أو جمودها وعدم تطوّرها... وهناك سبب جوهريّ لعدم الإتقان، هو للأسف من فِعْلِ الَّذين يملكون إدارة الأعمال والمؤسَّسات، عندما لا يضعون الشَّخص المناسب في المكان المناسب، وهنا تدخل الوساطات والمحسوبيَّات والعواطف، فلا تحظى الكفاءات بفرصتها في العمل.

أيّها الأحبَّة: للخروج من كلِّ هذا الواقع الَّذي نعاني منه، لا بدَّ من أن نتحسَّس أهميَّة الإتقان، فإتقان عملك، هو قيمةٌ لكَ قبل أن يكون قيمةً للآخرين، وهو قيمة لك في الدّنيا قبل أن يكون قيمةً لك في الآخرة. عليك أن تعرف حدود طاقتك، وأين يمكن أن تكون، وقد ورد: "رحم اللَّه امرأً عرف حدَّه فوقف عنده".

لا تستحِ عندما لا تعرف أمراً أن تقول إنّك لا تعرفه، لأنَّ تبعات ذلك قد تكون كبيرةً عليك وعلى الآخرين. لذلك علينا أن نتابع المعرفة والتّدرّب ما دمنا نعيش في عصرٍ متغيّرٍ في معارفه وعلومه وتقنيّاته.

لنحرص على أن نصبر ونتأنّى في عملنا، فالتأنّي من الله، والعجلة من الشَّيطان، والبشرى للصَّابرين، ولنشعر دائماً برقابة الله والمسؤوليَّة تجاهه، تماماً مثل أيَّة رقابةٍ محسوسةٍ بل أكثر. فالمؤمن هو الّذي يعمل بهدف رضا الله وقبوله، وهو يشعر دوماً برقابة الله: «خف الله كأنّك تراه».

ولا بدّ من أن يواكب كلّ ذلك التّنظيم الدّقيق، والتّخطيط السّليم، والاستفادة من تجارب الآخرين ومن نقدهم، وثمرة كلّ هذا سيكون بالطّبع هو العمل الأحسن والأجود.

أيّها الأحبّة: الأحسن ثم الأحسن، الإتقان ثم الإتقان، الجودة ثمّ الجودة... هو ما نحتاجه في عبادتنا لربّنا، وفي تنظيم بيوتنا، وفي بناء أُسرنا وتربية أولادنا، وفي حياتنا الزّوجيّة... في تنظيم شوارعنا وطرقاتنا، في مدننا وقرانا، في إدارة مؤسّساتنا ومتاجرنا ومصانعنا، في علاقتنا ببعضنا البعض، أن نتقن الأداء في السّياسة والاقتصاد، وحتّى في مواقع الجهاد.. أن نحرص على الأحسن في القول والعمل والسّلوك.. بذلك نستعيد زمام المبادرة الّتي افتقدناها، وبذلك نبني واقعنا ونبني آخرتنا، وبذلك نعبِّر عن إيماننا، وعلى هذا النّحو يجب أن يرانا الله ورسوله والمؤمنون: {وَقُلِ اعْمَلواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التَّوبة:105].

"اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد وآله، وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيَّتي إلى أحسن النيَّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال"، يا أرحم الرَّاحمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

فلسطين: بدء تنفيذ مخطَّط التَّهويد

في فلسطين المحتلَّة، بدأ العدوّ الصّهيونيّ بتمهيد السّبل لتنفيذ مخطَّط تهويد فلسطين التّاريخيَّة، وإعلان يهوديَّة الكيان، وصولاً إلى ترحيل الفلسطينيّين من الأراضي المحتلَّة في العام 1948، تحت عنوان "قانون المواطنة" الهادف إلى نزع المواطنيَّة عن أهل الأرض الحقيقيّين، وإعطائها لليهود القادمين من أصقاع العالم، لتحقيق الهدف النّهائيّ لشعار: "أرضٌ بلا شعب، لشعب بلا أرض".

ومع إقرار حكومة العدوّ للتّعديلات على "قانون المواطنة" تمهيداً لإقراره في الكنيست، تكون مسيرة ترحيل الفلسطينيّين وتهجيرهم مجدّداً، وإسقاط حقّ العودة، قد بدأت فعلاً، لتبدأ معها معاناة جديدة للشّعب الفلسطينيّ، يُطلب فيها من الضحيّة أن تقدّم فروض الطّاعة والولاء للجلاّد، وأن تعلن التّنازل الكلّيّ عن كلّ مسيرة التّحرير الّتي انطلقت منذ ما قبل العام 1948...

وفي موازاة ذلك، شرب العرب المزيد من حليب الأرانب، فأعلنوا عن إعطاء الدبلوماسيّة الأمريكيّة مهلة شهرٍ لكي تحاول إنقاذ المفاوضات المباشرة بين السّلطة الفلسطينيّة وكيان العدوّ، فيما المزيد من شروط رئيس حكومة العدوّ، تطوِّق إرادات المسؤولين العرب وقراراتهم، وخصوصاً في عرضه الجديد عليهم: تجميد مؤقّت للاستيطان مقابل اعترافهم جميعاً بأنّ فلسطين أصبحت دولة الشّعب اليهوديّ...

لقد بدأ الخناق الدَّوليّ والإقليميّ يضيق من حول العنق الفلسطينيّ، ليتحوَّل إلى قبضةٍ حديديَّةٍ يُراد لها أن تتحكَّم بمصير المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة كلِّها، من خلال إحكام الطَّوق على المسألة الفلسطينيَّة بالذّات. ولذلك، فإنّ المسؤوليّة الملقاة على عاتق الشّعوب العربيّة والإسلاميّة كبيرة، لأنّ المسألة لا تتّصل بعنصريّة العدوّ وفاشيّته فحسب، بل بالمخطّط الدّوليّ السّاعي لإنهاء القضيّة الفلسطينيّة، وإسقاط مقولة الدّولة المستقلّة، وتحقيق طموحات العدوّ في فلسطين كلّها، وتمهيد السّبيل له لعدوانٍ جديدٍ على البلدان العربيّة والإسلاميّة المجاورة، وها هو يُعلن على لسان رئيس أركان جيشه، عن الاستعداد لاستخدام أوسع مجالٍ للقوّة في الحرب المقبلة.

الأمَّة رهينة اللّعبة الدَّوليَّة

إنّ ما يبعث على الكثير من القلق والارتياب، أنّ الأمّة الّتي استطاعت أن تحقّق نجاحاتٍ موضعيّةً ضدّ الاحتلال وقوى الهيمنة العالميّة في أكثر من موقع، وخصوصاً في لبنان والعراق وأفغانستان، لا تزال تحت رحمة قوى الطّغيان العالميّ الّتي تعمل لتفتيتها وتقسيمها مذهبيّاً وسياسيّاً، وحتى جغرافيّاً...

ولعلّ الصّورة تبدو أكثر وضوحاً عند معاينة المشهد السّودانيّ، الّذي يطلّ على مرحلة التّقسيم الفعليّة، بعد الاستفتاء المنوي تنظيمه في كانون الثّاني المقبل، والّذي تحشد المحاور الدّوليّة والقوى الأخرى المتّصلة بها كلّ طاقاتها، لدفع المسألة باتجاه تقسيم السّودان بين شمالٍ وجنوب، وليصار بعدها إلى تقسيم المقسَّم، وتفتيت المفتّت، في عملية استباحةٍ جديدةٍ للأمن العربيّ والإسلاميّ، ولثروات الأمّة الدّفينة، وقد بدأ بعض الأطراف السّودانيّين ممّن لهم علاقة بالمحاور الدّوليّة، بالتحدّث علناً عن الانفتاح المقبل على كيان العدوّ، بحجَّة أنّ العلم الصّهيونيّ يرفرف فوق القاهرة...

إنَّ هذه المعاينة للمشهد السّودانيّ، تقودنا إلى تلمّس الخطر فيما يُراد للأمَّة أن تغرق فيه من انقسامات، تبدو علاماتها واضحةً في اليمن الَّذي بات ساحةً من ساحات العبث الدَّوليّ، حيث تدخل إليه المخابرات الأمريكيَّة لتعبث به، إلى جانب كلّ الجماعات الّتي تحمل عناوين جهاديّة، أو تتّصل بمسائل عنفيّة، ليكون ذلك بمثابة المؤشّر حيال ملفّاتٍ أخرى في الأمّة، ومواقع عديدة فيها، معرّضة لهذا النّوع من الانقسام الّذي يتهدّد وحدة الأمّة، من حيث تهديده لعناصرها الوطنيّة والإسلاميّة ومواقعها الجغرافيّة.

ولا يبدو العراق في مشاكله السياسيّة الكبيرة، وأوضاعه الأمنيّة الّتي كانت ولا تزال من صناعة الاحتلال ونتائج غزوه، ببعيدٍ عن هذه الصّورة في معطياتها وحيثيّاتها، وخصوصاً أنّ عملية تشكيل الحكومة تخرج من مأزقٍ لتدخل في آخر، بعدما دخلت التَّجاذبات الإقليميَّة والدَّوليَّة مرحلةً معقَّدة، انعكست مزيداً من التَّعقيد أمنيّاً وسياسيّاً في الدّاخل، من دون أن تلوح بوارق الأمل في الآفاق، لأنَّه يُراد للعراق أن يبقى رهين اللّعبة الدّوليَّة، وأسير الأوضاع الإقليميَّة الّتي تدخل فيها المساومات على هذا الموقع أو ذاك، في محاكاةٍ للمطالب والشّروط الدّوليّة المفروضة من هنا وهناك.

لبنان: لشبكةِ أمانٍ عربيَّة وإسلاميَّة

أمّا في لبنان، الّذي استقبل في هذه الأيّام ضيفاً عزيزاً، وأخاً كريماً، آلى على نفسه إلا أن يقف إلى جانبه في قضاياه المصيريّة ومشاكله الاقتصاديّة، وأن يكون سنداً له في مواجهة المحتلّ.. فهو البلد الّذي ينبغي للجميع فيه أن يعرفوا من هم أصدقاء لبنان الحقيقيّون ومن هم أعداؤه، لأنّ القضيّة تتّصل بمصير البلد، ولا تتّصل بحركة المزاج، في أن يعمل كلّ فريقٍ محليّ على إنشاء مروحةٍ من العلاقات الخارجيّة الّتي لا تأخذ بالاعتبار واقع البلد ودوره في حماية قضايا الأمَّة ومواقعها الحيويَّة والاستراتيجيَّة.

ونحن في الوقت الّذي نؤكِّد أهميَّة استمرار إيران في دورها الَّذي أثبتت من خلاله أنَّها منفتحة على لبنان الدّولة، وعلى جميع الطّوائف والمذاهب والأطياف اللّبنانيّة، نريد للجميع في لبنان أن ينفتحوا عليها، لاستثمار ذلك كلّه لحساب قوّة لبنان ومنعته في مواجهة العدوّ وكلّ الطّامعين.

إنّنا نتطلّع إلى شبكة أمانٍ عربيّةٍ وإسلاميّةٍ تعمل على حماية لبنان من المشاريع الدّوليّة القادمة تحت عناوين قضائيّة دوليّة وغيرها. ولذلك، فإنّ المطلوب من اللّبنانيّين ألا يستغرقوا في جزئيَّات السِّجال السياسيّ المتواصل الحامل لكلِّ التّفاصيل المحليَّة، لأنّ الأمور هي أكبر بكثيرٍ من السِّجالات الدّاخليَّة الَّتي يتوزّع فيها الكثيرون أدوراً رُسمت لهم سلفاً. ولذلك، علينا أن نعمل جميعاً للوحدة، وأن نعدّ العدّة لمواجهة العدوّ الّذي يستعرض عضلاته العسكريَّة في المناورات الجديدة، حتَّى لا يسقط البلد فريسةً بيده، أو في أتون الفتنة القاتلة الّتي لا يمكن أن تكون إلا نقمةً ووبالاً على الجميع.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض) التاريخ: 7 ذو القعدة 1431 هـ الموافق: 15/10/2010 م

السيّد علي فضل الله في معرض استقباله رامي الريّس:
ليتعاون الجميع لإنتاج ثقافة السّلام وحفظ مسيرة السّلم الأهليّ

استقبل العلامة السيّد علي فضل الله، رئيس منتدى الفكر التقدّمي، رامي الريّس، حيث جرى عرضٌ لعددٍ من الشّؤون الثقافيّة والسياسيّة، وتمّ التّأكيد على التّعاون بين مراكز الدّراسات والأبحاث التّابعة لمؤسّسة سماحة المرجع الرّاحل، السيّد فضل الله، وعلى رأسها مؤسّسة الفكر الإسلاميّ المعاصر، ومنتدى الفكر التقدّمي.

وشدّد السيّد علي فضل الله، في خلال اللّقاء، على أهميّة التّعاون بين مختلف الأطر الثقافيّة والفكريّة في لبنان، لإنتاج ثقافة السّلام الدّاخليّ القائمة على احترام الآخر، وفق قاعدة "التّعاون على ما نتّفق عليه، والتّحاور فيما نختلف فيه".

وأكّد سماحته ضرورة التّفاعل الإيجابيّ مع كلّ المبادرات الّتي تطلق لإرساء قواعد التّفاهم الداخليّ بما يحفظ مسيرة السّلم الأهلي اللّبنانيّ، مشدّداً على اعتماد الخطاب السياسيّ الهادئ، لتجنيب البلد المزيد من المشاكل والأزمات الّتي من شأنها تقويض البناء السياسيّ والثّقافيّ اللّبنانيّ، وإسقاط الهيكل على رؤوس الجميع.

وكان السيّد علي فضل الله قد استقبل رئيس بلديّة الخضر، جهاد عودة، على رأس وفدٍ من البلديّة، حيث جرى عرضٌ لبعض الشّؤون التنمويّة.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 6 ذو القعدة 1431 هـ الموافق: 14/10/2010 م

13 أكتوبر 2010

السيد علي فضل الله استقبل رئيس جمعيّة الدّعاة والبستاني وعبيد:
للخروج من عقليّة المذاهب إلى ذهنيّة الأمّة

شدّد العلامة السيّد علي فضل الله، على أن يتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم حيال ما يجري من استباحةٍ للمقدّسات في فلسطين المحتلّة.

ودعا إلى الاستنفار على مستوى الأمّة لمواجهة غطرسة الصّهاينة بدلاً من السّقوط في حديث الفتنة القادمة بين السنّة والشّيعة، مشدّداً على الخروج من عقليّة المذاهب إلى ذهنيّة الأمّة.

استقبل سماحته رئيس جمعيّة الدّعاة، الشّيخ محمد أبو القطع، على رأس وفدٍ من الجمعيّة، حيث جرى التّداول في تطوّرات الأوضاع اللّبنانيّة على ضوء التّداعيات الأخيرة، والحديث عن الفتنة المذهبيّة القادمة.

ورأى الشّيخ أبو القطع، أنَّ المؤامرة القادمة تستهدف السنَّة والشّيعة معاً، لأنَّ محاور الظّلم الدّوليَّة ليست مع السنّة ولا مع الشّيعة، بل مع مصالحها الّتي تريد للطّرفين أن يتقاتلا ويتناحرا حتى يحقّق ذلك مصالح هؤلاء ومصالح الكيان الصّهيونيّ.

أضاف: إنَّه لمن المعيب أن نتلهَّى بوهم الهلال الشّيعيّ عن حقيقة المشروع الصّهيونيّ، وعن مشروع الشّرق الأوسط الكبير، وأن ندخل في صراعاتٍ داخليّةٍ للتّغطية على الجريمة الكبرى المتمثّلة بسرقة فلسطين وتقديمها كهديّةٍ للصّهاينة المغتصبين.

ورأى السيِّد علي فضل الله، أنَّ على الجميع تحمّل مسؤوليَّاتهم حيال ما يجري في فلسطين المحتلَّة، من مشاريع لتقويض المسجد الأقصى، وتهويد القدس بالكامل، ومن استباحةٍ لكلّ المقدّسات، كإحراق المساجد ونسخٍ من القرآن، والتعرّض المشين للأسيرات والأسرى، متسائلاً: كيف يمكن الصَّمت والسّكوت عن هذه الجرائم وهذا العدوان، والانشغال عن كلِّ ما يجري في فلسطين المحتلَّة بإشاعة الحديث عن الفتنة القادمة بين السنّة والشّيعة في لبنان، وفي مواقع أخرى من العالم الإسلاميّ...

ودعا سماحته إلى الاستنفار على مستوى الأمّة لمواجهة غطرسة الصّهاينة في فلسطين المحتلّة، مشدّداً على الخروج من عقليّة المذاهب والطّوائف إلى ذهنيّة الأمّة، للانفتاح على قضايا العرب والمسلمين وكلّ المظلومين في العالم.

وكان سماحته استقبل الوزير السّابق ناجي البستاني، حيث جرى عرض لتطوّرات الأوضاع السياسيّة، وما يتّصل بالمحكمة الدّوليّة على المستويين السياسيّ والقانونيّ.

كما استقبل المدير العام السّابق للإعلام، محمد عبيد، وعرض معه الأوضاع.




مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 29 شوَّال 1431 هـ الموافق: 07/10/2010 م

وفد علمائيّ برئاسة السيّد علي فضل الله زار المفتي الشعّار في طرابلس:
الفتنة بين السنّة والشّيعة وئدت في مهدها

تعزيزاً للمواقف الدَّاعمة للوحدة الإسلاميَّة, وقطعاً للطَّريق على مثيري الفتن ومشعلي نار المذهبيَّة والطائفيَّة، زار العلامة السيِّد علي فضل الله على رأس وفدٍ علمائيّ، مفتي طرابلس والشّمال الدّكتور مالك الشّعّار، وكان لقاء حضره لفيف من العلماء الشّيعة والسنَّة في مقرّ دار الفتوى في طرابلس، وكانت الزّيارة مناسبةً لتداول الأوضاع الرّاهنة على مستوى لبنان والمنطقة، وخصوصاً أنّ الأمّة تمرّ بمرحلةٍ صعبةٍ وخطيرةٍ، وفق ما جاء في اللّقاء الّذي استمرّ أربع ساعاتٍ، وتخلّله مأدبة غداء أقامها المفتي على شرف الزّائرين.

وقد حضر عن دار الفتوى نائب رئيس المجلس الشّرعيّ الإسلاميّ الأعلى، الوزير السّابق عمر مسقاوي، أمين عام حركة التّوحيد الإسلاميّ الشّيخ بلال شعبان، الرّئيس السّابق للمحاكم الشّرعيّة السنيّة الشّيخ ناصر الصالح، أمين الفتوى في طرابلس والشّمال الشّيخ محمد إمام، مسؤول الجماعة الإسلاميَّة في الشّمال أحمد خالد، رئيس دائرة الأوقاف في طرابلس الدّكتور الشّيخ حسام سباط، مدير مكتب المفتي الشعّار الدّكتور الشّيخ ماجد الدّرويش، شيخ القرّاء زياد الحاج.

إثر اللّقاء، أدلى العلامة السيّد علي فضل الله بتصريحٍ قال فيه: لقد تشرّفنا بزيارة سماحة المفتي الشّيخ مالك الشعّار الّذي يمثّل قيمةً إسلاميّةً ووطنيّةً كبيرةً، كما يمثّل شخصيّةً وحدويّةً منفتحةً تعيش همَّ الوحدة الإسلاميّة، وتعمل، كما يعمل الكثيرون من أمثاله، على وأد الفتنة، وقطع الطّريق على كلّ من يسعى لإشعال نيران الفتنة المذهبيّة في الواقع الإسلاميّ، وكانت مناسبةً لشكر سماحته على تعزيته بوفاة سماحة السيد الوالد رضوان الله عليه، وعلى المواقف التي أشار فيها إلى تقديره لسماحة السيّد، واحترامه لشخصيّته الفذّة وعقليّته المنفتحة، ومسيرته الّتي اعتبر فيها أنّ وحدة الوطن ووحدة المسلمين أكبر بكثيرٍ من أيّ خلافٍ دينيّ أو سياسي.

أضاف: لقد تداولنا في الأوضاع الرَّاهنة على مستوى لبنان والمنطقة، حيث تمَّ التّأكيد أنّ الأمّة تمرّ بمرحلةٍ من أصعب المراحل وأخطرها، وأنَّ الأعداء يعملون على إشعالها بالفتنة المذهبيَّة للثّأر من الإنجازات الّتي تحقَّقت في مواجهة المحتلّ، سواء في لبنان وفلسطين أو في العراق وأفغانستان، وأنّ القوم بعدما يئسوا من إمكان تحقيق تقدّمٍ في مشروعهم الاحتلاليّ في المنطقة، بدؤوا العمل على إحداث شرخٍ داخل الأمَّة، من خلال الفتنة السنيَّة الشيعيَّة الّتي يعملون لها على المستويات كافّةً وفي مختلف المواقع.

وقال: شعرنا من خلال هذا اللِّقاء، أنَّ هناك ثقةً كبيرةً متزايدةً، بأنَّه ليس هناك من فتنة في لبنان بين السنَّة والشّيعة، ونستطيع أن نقولها بشكلٍ جازم، فالصِّراع في لبنان ليس صراعاً سنيّاً شيعيّاً، وليس الخلاف الحاصل في لبنان صراعاً على قضايا يختلف عليها المسلمون، إضافةً إلى أنّنا نثق بالعلماء الواعين الَّذين يعملون في اللَّيل والنَّهار، من أجل عدم تحويل الخلاف السياسيّ الّذي قد يحصل في هذا البلد إلى خلافٍ مذهبيّ. لذلك، نحن على ثقةٍ بأنَّ كلّ الّذين يتحدّثون عن فتنةٍ سنيّةٍ شيعيّة، هم يراهنون على أمرٍ سوف لن يحصل. في لبنان، هناك خلاف سياسيّ كان موجوداً، وما زال، ويبقى هذا الخلاف السياسيّ موجوداً، وطبعاً نحن نسأل الله أن يوفّق كلّ الواعين في هذا البلد، من أجل أن يمنعوا حصول فتنةٍ من وراء هذا الخلاف السياسيّ، ونريد للجميع أن يجلسوا على طاولةٍ مشتركةٍ من أجل أن يتداولوا جميعاً في ما يمكن أن يصلح من واقع هذا البلد، وما يمكن أن يحميه من كلِّ التَّأثيرات الّتي قد ترد إليه من الخارج، بما يعزِّز من مناعة اللّبنانيِّين في داخله. ونحن نعتقد أنّ الواعين سيتجاوزون، بعون الله، كلّ ذلك. صحيح أنَّ هناك صعوبات نجدها في الواقع، ولكن اللّبنانيّين تعلَّموا أن لا خيار لهم في هذا البلد، إلا أن يتوحَّدوا على قضاياهم، وأن يتوحَّدوا من أجل قوَّة هذا الإنسان، ومن أجل منعته وعزّته، وقد جرَّب اللّبنانيّون كثيراً أن يختلفوا وأن يتنازعوا وأن يتقاتلوا، ولكنّهم لم ينتجوا شيئاً، وجاءت بعد ذلك كلّ المبادرات الّتي جعلت الجميع يجلسون على طاولةٍ واحدة.

ودعا الجميع ليوفّروا على اللّبنانيّين كلّ ما يمكن أن يعانوا منه، وأن يجلسوا معاً لدراسة كلّ الهواجس، وقال: هناك هواجس في هذا الاتجاه، وهنالك هواجس في ذلك الاتجاه، وليعمل كلٌّ على إزالة الهواجس لدى الآخر، ويستطيعون بعد ذلك أن يصلوا إلى ما يمكن أن يساعد هذا البلد على الاستمرار، بأن يبقى بلداً يشعر فيه أبناؤه بأنّهم يعيشون في بلدٍ يطمئنّون فيه على حياتهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم.

وقال: هناك من يراهن على أن يكون الدّخان اللّبنانيّ هو دخان الفتنة الّتي يراد لها أن تحدث في لبنان لتغطية ما يحدث في المنطقة، وعلى اللّبنانيّين أن لا يسمحوا بذلك، وأن يعيدوا النَّظر بأساليبهم، حتَّى لا يكرّروا التّجارب مرّةً جديدة، لأنّنا في السّابق عشنا الفتنة الّتي استمرّت في لبنان طويلاً، واعتقدنا أنَّ كلَّ فريقٍ يسعى للحفاظ على موقعه، ولكنّنا وجدنا في النّهاية، أنَّ الفتنة كانت تريد أن تسوّق لمشاريع يراد لها أن تنطلق من هذا البلد، وقد آن الأوان للّبنانيّين أن يجلسوا مع بعضهم البعض، وأن يفكِّروا كيف يكون مستقبل هذا الوطن ومستقبل الإنسان فيه.

وأكّد أنّ كلّ الأصوات التي تحاول إثارة الفتنة بالإساءة إلى أمّهات المؤمنين أو صحابة رسول الله(ص)، أو تلك الّتي تسقط في فخّ الانفعال والإثارة والحساسيّة والعصبيّة، هي أصوات عاملة لحساب أعداء الأمّة، سواء التفتت إلى ذلك أو لم تلتفت، إضافةً إلى أنّها خالفت الشّرع الحنيف، وأساءت إلى الرّسول الأكرم وإلى القرآن الكريم وتعاليم الإسلام السّامية.

المفتي الشعّار:

من جهته، قال المفتي الشعّار: وقت مبارك شرّفنا فيه سماحة السيّد ابن العلامة المرجع، سماحة السيّد محمد حسين فضل الله، أسكنه الله تعالى فسيح جنانه، وتربطنا بهذا البيت أواصر من الودّ والاحترام، لأنّها تقوم أوّلاً على الثّقة والمصداقيّة لما يمثّلون من فكرٍ دينيّ وروحٍ وطنيّةٍ ولبنانيّة، ولذلك كان يوماً مباركاً أن نستقبله اليوم في دار الفتوى، من أجل أن نتعاون وأن نتبادل الرّأي، من أجل الوصول إلى سبلٍ للخلاص، لا أقول بأن نكون نحن نواتها، وإنما مداميكها بإذن الله، وخصوصاً في الإطار الدّينيّ الّذي له علاقة بإخواننا الشّيعة والسنّة على حدٍّ سواء، والذين نعتبرهم جميعاً في مسيرة إسلاميّة واحدة، بل في مسيرةٍ وطنيّة تخدم هذا البلد وأهله.

أضاف : رحّبنا بسماحة السيّد وصحبه الكرام، وكانت جولة واسعة في إطار التّعاون الثقافيّ والفكريّ والعمليّ، من أجل أن يشيع هذا المناخ وينتشر على مستوى الوطن، ولعلّ طرابلس كانت وما تزال مفتاح الخير وبابه، كما الجنوب مركز النّصر وإشراقاته. فما أجمل هذا اللّقاء في إطارٍ من الأخوّة والوحدة والمصداقيّة الّتي تعبّر عن العاطفة والحبّ والتقدير لكلّ ما يحمله سماحة السيّد مع صحبه الكرام، أهلاً وسهلاً بكم، وليرحم الله والدكم، والأمانة كبيرة على أعناقنا وأعناقكم، ولكن الأمر يهون على من يعينه الله تعالى، ونحن وإيّاكم في مركب الخلاص والنّجاة.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 26 شوّال 1431 هـ الموافق: 04/10/2010 م

السيّد علي فضل الله في معرض استقباله وفد جمعيّة "قولنا والعمل" :
إذا انطلقت شرارة الفتنة في لبنان فستصل إلى المنطقة

حذّر العلامة السيِّد علي فضل الله من الخلفيَّات الّتي تختفي خلف العناوين القضائيَّة الدّوليَّة، مشيراً إلى أنَّ الوحدة الإسلاميّة في لبنان، هي جزء لا يتجزّأ من حماية الوطن وحفظه، داعياً إلى تحصين الأجيال بالوعي، لأنَّ ثمَّة خطّةً يُعمل معها للتَّخفيف من ضغط الاحتلال شكليّاً، لحساب تقدّم مشروع الفتنة المذهبيَّة هنا وهناك.

جاء ذاك إثر استقبال سماحته رئيس جمعيَّة "قولنا والعمل"، الشّيخ أحمد القطّان، على رأس وفدٍ من الجمعيّة، حيث جرى عرضٌ للأوضاع الإسلاميّة العامّة، والمشاكل الّتي تعترض طريق الوحدة الإسلاميّة في لبنان على وجه التّحديد.

وقال الشَّيخ قطّان: لقد كان سماحة المرجع الرّاحل، السيّد محمد حسين فضل الله، علماً كبيراً من أعلام الأمّة، وكان ضمانةً للمسلمين في لبنان على وجه الخصوص، وكان يحظى باحترام أبناء الأمّة، وخصوصاً المسلمين السنّة، الّذين وجدوا فيه شخصيّةً إسلاميّةً وحدويّةً من الطّراز الرّفيع، ونحن بحاجةٍ إلى أمثاله وإلى من يسير على نهجه، ونرى في نجله السيّد علي وكلّ من يحتضن هذا الخطّ، ضمانةً لهذا النّهج، وصوناً للوحدة الإسلاميّة..

وثمّن الشيخ قطّان المواقف الوحدويّة الأخيرة للسيّد علي فضل الله، مشيراً إلى دفاعه عن أمّ المؤمنين عائشة، ورفضه الإساءات الّتي انطلقت من البعض، داعياً إلى الاقتداء بهذه المواقف، محذّراً من صبّ الزّيت على النّار لإشعال فتنةٍ مذهبيّةٍ بين المسلمين السنّة والشّيعة، مشدّداً على حفظ المقاومة، لأنّ المحاور المعادية جميعاً تعمل للنّيل منها، مؤكّداً أنّ المحكمة الدّوليّة هي محكمة مسيَّسة، وتعمل بقرارٍ وتوجّهٍ أمريكيّين.

من جهته، أشار سماحة السيِّد علي فضل الله إلى أهميَّة تعبئة الأجيال بالوعي، وتحصينهم بالمعرفة والعلم، لأنَّ ثمَّة خطّةً تتحرَّك فيها محاور غربيَّة معادية تريد للمسلمين أن يتقاتلوا فيما بينهم، من خلال استحضارهم للتَّاريخ بأساليب العصبيَّات والحساسيَّات، لينشغل الحاضر الإسلاميّ بحساسيّات التّاريخ وعصبيّاته، ويكون المستقبل لأعداء الأمّة وكيان العدوّ.

ورأى سماحته أنّ الخطّة تقتضي تجميد المسائل المتعلّقة بالاحتلال، وانحسار الاستكبار شكليّاً في بعض المواقع الإسلاميّة، ليتقدّم مشروع الفتنة المذهبيّة إلى الواجهة.

وحذّر من وجود عملٍ منظّمٍ يتوزّع فيه الأطراف المتعدّدون الأدوار، لجعل السّاحة الإسلاميّة مهتزّةً وقلقة، وإراحة ساحة العدوّ الصّهيونيّ لكي يخطّط لحروبه الجديدة، وهو الّذي يتحدّث عن استعداداتٍ متواصلةٍ لحربٍ واسعة النّطاق قد يشنّها على أكثر من جبهة.

وشدَّد سماحته على أنَّ وحدة المسلمين في لبنان، هي جزء لا يتجزّأ من مسألة الحفاظ على البلد والمنطقة، لأنَّ أيَّ اهتزازٍ في لبنان، ستنطلق شراراته في المواقع المحيطة، ولذلك ينبغي على الجميع أن يعمل لمنع ذلك بكلّ الأساليب والإمكانيّات، داعياً إلى عدم النّظر ببراءة إلى الكثير من الأوضاع والمشاريع الّتي تختفي خلف العناوين القضائيّة الدّوليّة، لأنّنا رأينا هذا القضاء يكيل بمكيالين، ولا يعمل على ملاحقة العدوّ لمحاسبته على جرائمه ومجازره، بينما يسعى لإيقاع الفتن بين المسلمين.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 25 شوال 1431 هـ الموافق: 02/10/2010 م

السيد علي فضل الله استقبل وفداً من الجماعة الإسلاميَّة ووفداً علمائيّاً من صيدا:
لإغلاق المنافذ على السَّاعين للفتنة المذهبيَّة

أكَّد العلامة السيِّد علي فضل الله، ضرورة إغلاق كلِّ المنافذ أمام الّذين يسعون لإثارة الفتنة المذهبيَّة في لبنان، داعياً إلى توضيح ما يجري للنَّاس، وأنّه خلاف سياسيّ، مشدِّداً على كشف اللّعبة السَّاعية لمذهبة القضايا السياسيّة.

استقبل سماحته وفداً من الجماعة الإسلاميّة، ضمّ عضو مجلس الأمناء في الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين، الشّيخ أحمد العمري، وعضو المكتب السياسيّ الشّيخ محمد العمري، والشّيخ وائل نجم.

وجرى في خلال اللّقاء عرضٌ للأوضاع العامّة في لبنان، وخصوصاً ما يجري على السّاحة الإسلاميّة من محاولاتٍ لإيقاع الفتنة بين المسلمين السنّة والشّيعة..

وأشار الشّيخ أحمد العمري إلى الدّور الكبير الّذي كان يتحرّك من خلاله سماحة المرجع الرَّاحل، السيِّد محمد حسين فضل الله، لوأد الفتنة في الواقع الإسلاميّ، مشدِّداً على استمرار هذه المدرسة في أداء هذا الدَّور الوحدويّ الَّذي يمثِّل عنصر حمايةٍ كبيرةٍ للواقع الإسلاميّ.

وأثنى سماحته على المواقف الأخيرة للسيِّد علي فضل الله، في تأكيد فتوى والده بحرمة التعرّض للصّحابة ولأمّهات المؤمنين، ومواقفه في القضايا المتعلّقة برفض إثارة الحساسيّات بين المسلمين، مؤكّداً الدّور الكبير لهذه المدرسة المتنوّرة، وخصوصاً في هذه المرحلة الّتي يستخدم فيها العنوان المذهبيّ كغطاء لإشعال الخلاف الّذي هو في الأصل خلاف سياسيّ.

وتحدَّث سماحة السيِّد علي فضل الله، مشيراً إلى ضرورة استنفار كلِّ الجهود لإغلاق المنافذ على كلِّ أولئك الَّذين يسعون لإثارة الفتنة بين المسلمين السنَّة والشِّيعة، مشدِّداً على أهميّة العمل لكشف اللُّعبة، وإخراج المسألة من دائرة المذهبيَّة الَّتي يسعى لها الكثيرون، لأنَّ الخطَّة المرسومة تقوم على مذهبة القضايا السياسيَّة.

وأكَّد سماحته استمرار العمل لتنقية الدِّين من أجواء الخرافات والغلوّ، وحماية مسيرة الوحدة الإسلاميَّة بالمواقف والحركة الميدانيَّة.

وكان العلامة السيِّد علي فضل الله، استقبل وفداً علمائيّاً من مدينة صيدا، برئاسة إمام مسجد الغفران، الشّيخ حسام العيلاني، حيث جرى بحثٌ في الآليّات المفترضة لحماية الوحدة الإسلاميّة، وخصوصاً في ظلّ الأجواء غير المريحة في لبنان.

وشكر الشّيخ العيلاني السيّد علي فضل الله على مواقفه الأخيرة في دعم الوحدة الإسلاميّة، ورفض الإساءة إلى أمّهات المؤمنين الّتي صدرت عن البعض، مشدّداً على دور العلماء الوحدويّين في حماية الوحدة الإسلاميّة، ورفض الإثارة المستمرّة للغرائز المذهبيّة، للتّغطية على ما يجري من محاولاتٍ تستهدف القضيّة الفلسطينيّة تحديداً.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 19شوال 143 هـ الموافق: 27/09/2010 م


السيّد علي فضل الله لـ "اللّواء":
تحريم الإساءة إلى السيّدة عائشة والصّحابة
التزام بنهج آل البيت(ع) وبالقرآن
ودورنا إخماد الفتن


وأنت تدخل إلى منزل الراحل، سماحة العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، تشعر برهبة المكان، وأنت كغيرك، لا تريد أن تعيش في الصورة القاتمة للغياب، ولا سيما أن الجميع يحدّثك عن الولادة المتجدّدة للرجل في الإقبال أكثر على كتبه، وفي الاستفتاءات التي ترد إلى مكتبه، وهي تزيد عن تلك التي كانت ترد في حياته.

على مدخل المنزل صورة كبيرة رُفعت للرّاحل، رُصّعت بكلماتٍ له كتلك الّتي كان يقول فيها: "قدوتي في كلّ مواقفي رسول الله"، وأخرى تمثِّل الوصيّة الكبرى له: "الله الله في الإسلام"، وثالثة تُشير إليه: "يا قلباً وسع المحبّين والقالين".

عند الصالون الكبير للمنزل الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية في حرب تموز 2006، وأعيد بناؤه، حيث عاد إليه سماحة السيّد الراحل في آخر شهور حياته، يستقبلك مستشاره السياسي والإعلامي، الحاج هاني عبد الله، فيقودك إلى الداخل، إلى "السيد علي"، الذي يسارع للقياك بتواضع الوالد نفسه، وابتسامته ومحبّته، وبتحيّته نفسها: "القلب مفتوح، والبيت مفتوح، والعقل مفتوح".

في المكان الرّحب، تشعر بأن روح السيّد فضل الله تطوف الأرجاء، في الكلمات، في الاستقبال، في صور الراحل الموزّعة على زوايا الغرفة، وفي بيتين من الشّعر له لخّصا حياته، وحملتهما لوحة فنيّة في صدر الغرفة:

أهوى الحياة انطلاقاً في ذرى حلمٍ يشدّه لحياة الوحي إيمانُ

عيشٌ بسيط ودنيا غير طامعةٍ وعالَم بالشّعور الحرّ يزدان

تطمئنّ إلى كلام النّجل السيّد علي، الوارث لعلم أبيه وتواضعه، وهو يحدّثك عن الاستمرار في السّير على نهج والده في حماية الوحدة الإسلاميّة، ورعاية المؤسّسات الخيريّة، والاستمرار في السّياق نفسه، فلا مذهبيّة، ولا طائفيّة، ولا توريث... إلى جانب الإحساس بثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتق الفريق الكبير من الكوادر والعلماء، الّذين نهلوا من علم السيّد وتربّوا على يديه، واطمأنّوا إلى "حركيّة" السيّد علي الشّبيه بوالده في كلّ شيء؛ في العلم والجلد والصّبر، وفي العمل الذي يستمر ليل نهار على رأس جمعية المبرّات والمؤسّسات، وفي قلب الحركة الإعلاميّة والسياسيّة والدينيّة.

نفتح صفحات الحديث مع العلامة السيِّد علي فضل الله، ويبدأ الحوار الشّامل مع "اللّواء"، هذا الحوار الّذي ضغطت عليه الظّروف في لبنان، وفي مقدمها سبل وأد الفتنة والوحدة الإسلاميّة، وواقع الحال في الإرث الكبير الذي خلّفه المرجع الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله. وجاءت وقائع الحوار على الشّكل التالي:

مؤسّسة المرجعيّة واستمرار التّقليد

س: هل تمّ ترتيب الوضع الدّاخليّ لمؤسّسات سماحة السيّد محمّد حسين فضل الله بعد وفاة سماحته؟

ج: لقد كان سماحة السيّد في كلّ حياته حريصاً على أن يبني مؤسّسة، لا بناء أفراد، بل كان حريصاً على بناء قواعد مؤسّسة وعلى مختلف المجالات، لذلك على مستوى المؤسّسات الّتي بناها السيّد، فقد كان حريصاً على أن تكون على قواعد سليمة، وبنى فيها روحيّة العمل المؤسّسي وليس الفرديّ، لكي تستمرّ هذه المؤسّسات.

حتَّى على مستوى المرجعيَّة الدّينيَّة، فقد كان سماحته حريصاً على بناء مؤسَّسةٍ لهذه المرجعيَّة. وعلى هذا الأساس، نجد أنّ ارتباط النّاس بسماحة السيِّد على المستوى الدّينيّ، استمرّ من خلال ثقة النّاس بهؤلاء الّذين ربّاهم السيّد، وركّز فيهم قواعد فكره، وأوجد من خلال ذلك ثقة النّاس بهم، وعلى هذا الأساس، فإنّ النّاس من خلال الممارسة، تابعت سماحة السيّد، وانطلقت في ذلك من خلال الأسس الفقهيّة الّتي يستند إليها الفقه الشّيعيّ في جواز البقاء على تقليد الميت، والتّقليد ما زال مستمرّاً.

هناك مؤسّسات خيريَّة وتربويَّة وصحيَّة ورعائيَّة ودينيَّة تحت عنوان "جمعيَّة المبرَّات الخيريَّة"، وهذه الجمعيَّة لا تزال مستمرَّةً وتؤدِّي دورها، وأيضاً هي تتابع عملها كما كان، وفيها القواعد الدّاخليَّة الّتي تؤهّلها لأن تستمرّ، ولديها أيضاً القدرة على الاستمرار.

رعاية 8000 طفل وأسرة

س: هل تضمّ هذه المؤسَّسات أعداداً كبيرة من الأيتام؟

ج: طبعاً، هناك داخل المؤسّسات بحدود 3530 يتيماً، وطبعاً هناك رعاية خارج المؤسّسات، فهناك 5000 عائلة تتلقّى الرّعاية من خلال هذه المؤسّسة، وهناك عدد من المعوّقين في مؤسّسة الإمام الهادي للإعاقة السمعيّة والبصريّة، ومركز للمسنّين، وإلى جانب ذلك، هناك مدارس في مناطق مختلفة ومعاهد دينيّة.

س: وماذا على مستوى المرجعيّة والتّقليد؟

ج: على مستوى التَّقليد، هذا الأمر انطلق من خلال الثّقة الموجودة لدى النَّاس بالجهة الشَّرعيَّة الموجودة. هناك هيئة شرعيَّة موجودة في المكتب، وهي عبارة عن مجموعة من العلماء الّذين لهم مواقعهم العلميّة، وهذه الهيئة الشّرعيَّة لا تزال موجودةً ومستمرّة، وهي الّتي أصدرت البيان، والّذي على أساسه استمرّ النّاس في تقليد سماحة السيِّد.

وقد انطلقوا في ذلك من خلال آراء العلماء الأحياء، فالمراجع الآن يتوافقون على جواز البقاء على تقليد الميت، ولا سيّما إذا كان الميت أعلم، وعلى هذا الأساس، تابع النّاس تقليد سماحة السيِّد، وهذه الهيئة لها دور لمتابعة الاستفتاءات لتطبيق ما كان عليه سماحة السيِّد وما أصدره من فتاوى.

فالهيئة الشّرعيّة لا تصدر فتاوى، وإنما تُبيّن الفتاوى الّتي هي لسماحة السيِّد، وتطبّق هذه الفتاوى على أرض الواقع، كما حصل بالنِّسبة إلى العيد، وليس على طريقة القياس.

وفي حال لم تكن المسألة مما عرض على سماحة السيِّد محمَّد حسين فضل الله، ففي هذه الحالة، نرجع إلى المرجع الحيّ الّذي يُعتمد في هذا الإطار، ولكن إلى الآن لم نُبتلَ بمثل هذا الأمر، ولا أعتقد أن يكون هناك ابتلاء بمسألةٍ لم يُصدر السيِّد فتوى فيها.

فالسيِّد لا يزال هو المرجع بناءً على فتوى المراجع بجواز البقاء على تقليد الميت، وقد بقيت الناس على تقليد سماحة السيِّد.

المرجعيَّة تُكتسب ولا تُورَّث

س: هل تنتقل المرجعيَّة انتقالاً أم تُكتسب؟

ج: المرجعيَّة لا تورَّث، بل تُكتسب، وذلك عندما يصل الإنسانُ إلى درجةٍ من العلم يصبح مؤهّلاً ليكون مرجعاً. ولذلك الّذين أبقاهم سماحة السيِّد هم أناسٌ اكتسبوا منه، فهموه، فهموا فكره، وآمنوا بفكره الفقهيّ، ويستطيعون الآن أن يطبّقوا فكره، لذلك فإنّ دور "الهيئة الشّرعيّة" الآن، أن تبيّن للنّاس ما كان يراه سماحة السيِّد وتطبّقه، لأنّ هناك أموراً تحتاج إلى من يتولّى تطبيقها. مثل موضوع الهلال، في بداية شهر رمضان أو نهايته، فسماحة السيِّد أعطى الفتوى، وطلب منَّا أن نرجع إلى علم الفلك.

ملتزمون نهج الاعتدال

س: أكَّد السيِّد محمَّد حسين فضل الله في خلال فترةٍ طويلةٍ من حياته، نهجاً معيّناً من الاعتدال، هل السيّد علي والهيئة الشّرعيّة على المنهج ذاته، أم هناك تغيّرات في ما يخصُّ بعض القضايا؟

ج: نحن على النَّهج ذاته، فهذا النّهج مستمرّ وسيستمرّ، لأنّنا نعتقد أنَّ هذا هو الإسلام، وهذا هو الخطّ الّذي يستطيع المساهمة في حلِّ مشاكل لبنان والمنطقة، والّذي من الممكن أن يؤدّي إلى الارتقاء بمستوى الإنسان في هذا العالم، وحلّ مشاكل العالم، وليس فقط مشاكل المسلمين. ولذلك سنتابع هذا الأمر من موقع قناعةٍ وليس من موقع إرث، فهذا هو الخطّ الإسلاميّ المنفتح على قضايا الحياة والعصر، والّذي حصل من خلال التَّشييع وردود الفعل الإيجابيَّة الكثيرة بعد وفاة السيّد، الّتي تؤكّد أنّ هذا الفكر استطاع أن يخترق الحواجز الّتي عادةً ما تمنع الفكر أن يتجاوزها، من حواجز طائفيّة ومذهبيّة وسياسيّة. فالسيّد كان بمقدوره أن يصل حتّى إلى الّذين يختلفون مع فكره.

وقد أكَّد الواقع أنَّ هذا الفكر هو الحلّ الأمثل، وهو صمَّام الأمان لكلِّ المشاكل الّتي نعاني منها، ولا سيَّما في لبنان، وخصوصاً فيما يتعلَّق بالفتن، وقد كان سماحة السيِّد في حياته صمَّام الأمان من أيّ فتنة، ومن المؤكّد أن يستمرّ هذا الفكر، ونحن سنتابع الطريق... طبعاً لن نستطيع أن نحقّق ما كان لشخصيَّة السيِّد من حضورٍ وتاريخ، ومن فكرٍ وقدرةٍ على الإقناع قد لا تتوفَّر للآخرين، حتَّى لو كانوا من أقرب النّاس إليه، ولكنَّنا سنحمل هذا الفكر، وسنعمل على أن نستمرّ بنهجه.

فتوى السيد(رض): عدم الإساءة إلى عائشة والصّحابة

س: أصدرتم موقفاً منذ أيّام في ما يخصّ قضيَّة السيِّدة عائشة وسبّ الصّحابة، هل هذه الفتوى هي نفسها الّتي أصدرها سماحة السيِّد بالتّحريم، أم أضفتم إليها شيئاً؟

ج: هي الفتوى نفسها، ونحن ذكَّرنا بها وأكَّدناها، ونؤكِّد متابعتها، ونحن على استعدادٍ لتحمّل أعبائها، فكما نعرف، فإنّ هذه الفتاوى قد لا تجد سوقاً لها، حتَّى في مواقع النَّاس الّذين من الممكن أن يفكِّروا فيها، ولكن قد لا يريدون أن تطرح مثل هذه الآراء، فضلاً عن أناسٍ كان لهم في الأساس موقفٌ من هذه الفتوى.

لذلك نحن أكَّدنا هذه الفتوى، وقلنا إنّ هذه الفتوى هي الّتي تعبِّر عن الإسلام الّذي نؤمن به، وهو خطّ آل البيت، وتعبِّر عمَّا ورد في القرآن الكريم. نحن لا نتحدّث في هذا الإطار من خلال مجاملة، وإنّما نتحدّث عن عمق ما نؤمن به وما نلتزم به، ومن المؤكّد أنّنا سنتابع هذا المسار في هذه القضيّة وفي كلّ القضايا.

نحن حريصون دائماً على إطفاء كلِّ الفتن الَّتي يراد لها أن تحصل، وحريصون على أن نتوقَّى الفتن الّتي يُراد لها أن تحصل، وحريصون على أن نقدِّم خطّ أهل البيت بالصّورة الّتي كان عليها أهل البيت. فإذا أردنا أن نستحضر سيرة الإمام عليّ (ع) في كيفيَّة تعامله مع الخلفاء، وهو الَّذي كان يعتقد أنَّ الخلافة حقّ له، نجد أنَّ الروحيَّة الّتي انطلق من خلالها هي الّتي تعبِّر عن الإسلام، فالإمام عليّ لم يكن ينطلق من أمرٍ خاصّ، ولكنّه كان يعبّر عن فكره، ومن ينتمي إليه لا بدَّ من أن يعبّر عن الفكر ذاته. فالإمام عليّ(ع) انطلق وقال: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصّةً".

أمّا فيما يتعلّق بالسيّدة عائشة، فعندما حصلت معركة الجمل، صانها الإمام عليّ (ع) واحترمها وكرّمها، وكان في ذلك ينطلق من موقعه الرّساليّ وليس من موقعه الشّخصيّ، وكان ينطلق من حرصه على رسول الله (ص)، ومن حبّه لرسول الله (ص)، ومن وعيه لما ورد في القرآن الكريم.

وكلّ تاريخ أهل البيت هو تاريخ انفتاحٍ وتواصل، ومن ينطق باسمهم لا يمكن أن يكون منغلقاً، أو متعصّباً، ولا ساعياً إلى فتنة، ولا يمكن إلا أن ينطلق في فكره مما رسموه، لأنّهم رسموا الإسلام كما كانوا يرونه، ورسموا خطّ الإسلام كما جاء به رسول الله(ص).

العلاقة مع الأزهر

س: انطلاقاً من هذا الفكر وهذا الانفتاح لديكم، هل باشرتم بهذه الحوارات مع الآخرين، مثل الأزهر وغيره؟

ج: نحن مستمرّون في نهج الانفتاح، لأنَّه في الأساس، حتَّى على مستوى الموقع الَّذي كنت فيه مع سماحة السيِّد، كان السيِّد يحرص على أن نعيش الانفتاح، وكنت عضواً في "الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين"، وكنت حريصاً، بناءً على رغبة السيِّد (رض)، على أن أكون في هذا الموقع. صحيحٌ أنَّ في الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين علماء من مختلف المذاهب، ولكن الغالب عليه كان علماء سنّة، وكان هذا مجالاً جيّداً للتَّواصل، وكما كنت حريصاً على التَّواصل والتَّواجد، سأتابع ذلك.


كذلك، نحن سائرون في المرحلة المقبلة على الانفتاح على الأزهر وعلى العلماء في السّعوديَّة، وحريصون على الانفتاح على كلِّ المواقع الإسلاميَّة الأخرى، وبالتّالي، هذا مسارٌ سنسير على أساسه كما أنّنا نؤكِّد الصّورة الَّتي كان سماحة السيِّد حريصاً عليها، وهي ألا ننغلق في مواقعنا، والمرحلة تحتاج إلى ذلك.

نحن لا ننطلق من مرحلةٍ معيَّنةٍ ونتوقَّف، بل نعتبر أنَّ هناك مساراً نسير عليه. فمثلاً الآن، هناك محكمة دوليَّة، وهناك فتنة يحضَّر لها هنا وهناك، ولكنَّنا نؤكِّد، كما كنَّا نؤكِّد دائماً، أنَّ قوَّة المسلمين بوحدتهم وبتواصلهم، وأنَّ قوَّة المستضعفين بتواصلهم، كما أنَّ قوّة العالم بانفتاح حضاراته بعضها على بعض.

إبعاد الطّوائف عن الفتنة السياسيَّة

س: بالنّسبة إلى لبنان، في رأيك، هل أُغلقت جميع الأبواب أمام القيادات ولم يبقَ سوى طريق الفتنة؟

ج: بطبيعة الحال، الفتنة الطَّائفيَّة أو المذهبيَّة هي الأكثر استثارةً للمشاعر، والأكثر قدرةً على جعل النَّاس تتحرَّك، فالنَّاس في السّياسة لا يتحرَّكون كما يفعلون عندما تستثير مشاعرهم المذهبيَّة والطّائفيّة، أو عندما تطرح مسألة استهداف رموز الطّائفة.

ولهذا نجد أنَّ لبنان لم يكن ضحيَّة الصِّراع الطَّائفيِّ، بل ضحيَّة الصِّراع السّياسيّ الَّذي استخدمت الطائفيَّة فيه كوسيلةٍ لتسويق الصِّراع السّياسيّ وتحميته وجعله أكثر توقّداً، وهذا أيضاً موجودٌ في الجانب المذهبيّ...

وما ندعو إليه في هذا الإطار، هو إخراج الجانب المذهبيّ والطَّائفيّ من الحسابات، لأنَّ القضيَّة ليست كذلك، ولأنّه حرام أن ندخل اللّبنانيِّين مجدّداً في هذا الأتون، وفي هذا الصِّراع، والّذي في نهاية المطاف سيخضع لمنطق التَّسويات، والفتنة في لبنان تحصل لحسابٍ معيَّن، وتنتهي عندما ينتهي هذا الحساب.

إذاً، نحن نقول إنّه لا بدَّ من أن يرتاح اللّبنانيّون، ولا بدَّ من أن نريح لهم أعصابهم، وعلينا أن نبقي الكثير من القضايا في إطار الصِّراع السياسيّ، وليتصارع السياسيّون، وليُقنع كلّ واحدٍ منهم النّاس بما هو عليه، فلماذا إشعال الفتنة في لبنان؟! لقد جرّب اللّبنانيّون الفتنة طويلاً، فماذا صنعت لهم سوى هذا الخراب والدّمار، وقد كانت نهايتها باجتماع صانعيها...

الفتنة ومصالح القوى الخارجيّة

س: هل ترى أنّ الأزمة الّتي نمرّ بها الآن، من الممكن أن يكون العامل اللّبنانيّ السّبب لوقف تدهورها، أم العامل الخارجيّ هو الطّاغي؟

ج: العامل اللّبنانيّ قد يكون أكثر تأثيراً، واللّبنانيّون واعون، ولكن مع الأسف، نجد أنَّ هناك سعياً دائماً لإيجاد احتقانٍ في الدَّاخل اللّبنانيّ، بحيث يشعر الإنسان الهادئ الَّذي يريد أن يفكِّر، بأنَّه أصبح هامشيّاً، أو هو بخلاف الجوِّ العام ومعزول، عندها يندفع ويقول: "أنا في النّهاية ابن طائفتي ومذهبي، ولا بدَّ من أن أقف معهم في كلّ شيء".

فالجانب اللّبنانيّ طبعاً له تأثير، ولهذا ندعو المسؤولين إلى أن يكفّوا عن هذا الشّحن الّذي يحصل، وندعو اللّبنانيين إلى أن يكونوا واعين.

نحن نقول أيضاً إنَّ لبنان هو دائماً ساحة الخارج، ونحن لا يمكن أن نعزل لبنان، ومن المؤكَّد أنَّ للخارج تأثيره، ولكن الّذين هم في الدّاخل، كثير منهم، مع الأسف، صدى لما هو حاصل في الخارج، والخارج الآن له مصالحه، ويريد أيضاً أن تكون السّاحة اللّبنانيّة، السّاحة الّتي يتنفّس فيها. ولذلك على اللّبنانيّين أن يفكِّروا - ولو لمرّة واحدة - بأن يستفيدوا من إيجابيّات الخارج، وألا يسمحوا للخارج بأن يحوّلهم إلى دور، وأن يصبح لبنان، في يومٍ من الأيّام، وطناً فيه مؤسّسات وفيه حيويّة وفعاليّة.

إبعاد المقاومة عن الصّراع السياسيّ

س: هناك معادلة صعبة الآن في البلد، هناك مقاومة وإنجازات، وفي الوقت نفسه، هناك محكمة دوليّة والاغتيالات والحقيقة، هل من الممكن أن يوصل الحوار إلى نتيجة بعد؟

ج: طبعاً هذا ممكن، إذا أراد اللّبنانيّون والمسؤولون ذلك، لأنّ لبنان بحاجةٍ إلى وعي ما حصل فيه حتّى لا يتكرّر، واللّبنانيّون جميعاً يُجمعون على ذلك، كما أنّ اللّبنانيّين بحاجةٍ إلى المقاومة، لأنّ "إسرائيل" هي "إسرائيل"، رأيناها سابقاً ونراها الآن. فإذا فكّر اللّبنانيّون فعلاً بمسؤوليّة في موضوع المحكمة الدّوليّة، فإنّ عليهم أن يأخذوا بالاعتبار أنَّ الّذين يديرون الآن الواقع العالميّ، سواء أكانت الأمم المتّحدة أم كلّ متفرّعاتها، أنّ هؤلاء لهم مصالحهم، ولا يجب أن ننظر ببراءة إلى هؤلاء كما نفعل دائماً. نحن لا نريد أن نحكم عليهم مسبقاً كما قد يحكم البعض، ولكن في النِّهاية نقول إنَّه يجب أن نكون حذرين، لأنَّه من خلال تجارب العالم، سواء في السّودان أو في العراق... تعلّمنا أنَّ الأمور ليست بريئة، فلا بدَّ من أن يدخل اللّبنانيّون في الحوار، وأن يجلسوا ويفكّروا مجدّداً.

وكذلك ما نريد تأكيده، أنَّه مهما كانت الأمور، لا بدَّ من أن نخرج المقاومة من دائرة التَّداول، لأنَّ هذه المقاومة في النّهاية هي مقاومة اللّبنانيّين، وهي تمثِّل قوّة هذا الشَّعب اللّبنانيّ، وكلّ اللّبنانيّين كان لهم دورٌ في المقاومة، كلّ في موقعه، فالمقاومة لم تكن طرفاً في يومٍ من الأيّام، من الممكن أن يكون العبء وقع على حزبٍ أو على طائفة، ولكن في النّهاية، هذا الجوّ العام للمقاومة ونتائجها على مستوى التّاريخ، أو في المراحل الأخيرة، كان نتاج جهود الجميع، والكلّ شارك فيه، ونحن لا نريد أن نزيل كلّ هذا التاريخ المجيد، بل نريد أن نحفظه.


والمطلوب في هذه المرحلة هو أن يجتمع الجميع من أجل أن يفكّروا بمسؤوليّة في هذا الإطار، وإلا إلى أين سنأخذ البلد؟! ففي النّهاية، خيارنا كلبنانيّين أن نعيش مع بعضنا البعض، ولا يمكن ذلك وكلّ واحد منّا يشعر بأنّ هناك مشكلةً مع الآخر.

العلاقة مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة

س: كيف هي علاقتكم بإيران الآن؟

ج: لقد كان سماحة السيِّد حريصاً على إيران بما تمثِّل من موقعٍ إسلاميّ، وكونها الدَّاعمة للمقاومة في لبنان، والحاضنة للكثير من الحركات الّتي تواجه العدوَّ الصّهيونيّ، وقد كان السيِّد يتجاوز من خلال ذلك بعض الأمور الّتي كانت تحصل في بعض الحالات، ولم يكن يقف عندها، بل كان يُركِّز على هذا الجانب.

نحن أيضاً سنتابع التَّركيز على هذا الجانب، فإيران الَّتي تعيش الإسلام فكراً، منفتحة على قضايا المسلمين، ونبقى معها في هذا الإطار.

س:كانت لسماحة السيِّد استقلاليّة عن إيران؟

ج: لقد كان السيّد حريصاً على أن يُبقي هذه المؤسَّسات عامّةً ومنفتحةً على كلِّ الخيِّرين والطيِّبين، ولكنّ هذه المؤسَّسات لم تكن لأحد، ولن تكون لأحدٍ أو تعمل لحساب أحدٍ أو تدخل في هذه الحسابات.

فمن يرد أن يُساعد أيتام هذه المؤسَّسات وفقراءها ومحتاجيها ومعوَّقيها، ومن يرد أن يساعد أهدافها، فلا مشكلة معه، أمَّا نحن، فلن نُرتهن لأحدٍ في أيّ مرحلةٍ من المراحل. فسماحة السيِّد علَّمنا أن نكون أحراراً في حياتنا، وسنبقى نعتبر أنّ الحريّة مسؤوليّة.

حسن شلحة

جريدة اللّواء اللّبنانيّة

4 تشرين الأوّل 2010

التاريخ: 26 شوّال 1431 هـ الموافق: 04/10/2010 م


بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:


الخطبة الأولى


الإصلاح بين النّاس: واجبٌ ومسؤولية

قال الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10]. وقال سبحانه: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}[النّساء: 114].

الاختلاف سمة الكائنات

لقد طبع الله سبحانه وتعالى البشر في الحياة بطابع الاختلاف، كما طبع الكون بكلّ كائناته بهذا الأمر، فأنّى تدر الوجه ترَ الاختلاف، في النّوع والشّكل والوظيفة والدّور... فالزّهور على مدِّ البصر، والثّمر مختلفٌ ألوانه، وكذلك الأمر في الجبال والبحار، وفي الكواكب والنّجوم، وفي أشكال النّاس والحيوان.

وإذا وصلنا إلى الإنسانِ أفضل خلق الله، فإنَّنا لا نرى إلا الاختلافَ. فمن حيث الشَّكل، يستحيل أن نرى شخصين طبق الأصل، فلكلٍّ خريطته الوراثيَّة الَّتي تحدِّد مظهره، كما تحدِّد معالم شخصيَّته. ولهذا، فمن الطَّبيعيّ أن نرى الاختلاف بين البشر في الإمكانات والقدرات، وفي الطَّبائع والأمزجة والآراء وطريقة النَّظر إلى الأمور والأهداف، وفي ميول الأهواء والمصالح... كلٌّ حسب بيئته.

إذاً، نفهم الاختلاف تنوّعاً، ونفهمه غنًى، ونفهمه تكاملاً وتلاقياً وتراكماً، وهذه هي الإيجابيَّة في الاختلاف الَّذي يلوِّن الحياة، ويُخرج المجتمع عن الرَّتابة الّتي ينتجها الرَّأي الواحد، أو الاتّجاه الواحد، وحتَّى المزاج الواحد.

أمَّا ما هو غير طبيعيّ في الاختلاف، فهو عندما يتحوَّل من نعمةٍ إلى نقمة، ومن الايجابيَّة إلى السلبيَّة، ويكون سبباً للمشاكل والتوتّرات بين الجماعات والجهات المختلفة، سياسيّاً أو دينيّاً أو مذهبيّاً، أو بين العائلات والأفراد.. أفراد الوطن الواحد، أو المجتمع الواحد، وحتى بين أفراد العائلة الواحدة؛ بين الأخ وأخيه، والزّوج وزوجته، والابن وأبيه، وهكذا...

ومن مظاهر هذا الاختلاف السَّلبيّ، نشوء حساسيّاتٍ داخل النّفوس، وبروز عداواتٍ وفتنٍ بين النّاس، قد تنتهي خراباً وفساداً ولعنةً وطرداً من رحمة الله...

الدَّور التَّربويّ للأنبياء

ومن هنا، انطلقت دعوة الإصلاح، وأرسل الله الأنبياء لأجل ذلك رحمةً بالنَّاس، وهذا ما أشار الله إليه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ}[البقرة: 213].

فدور الأنبياء هو صمَّام الأمان في الدّنيا، الذي يَحُول دون استحكام الخلافات بين الناس، بحيث تكون الدّنيا صورةَ الآخرة، كما وصفها لنا الله: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر:47]. فقد ركَّزوا من خلال دورهم التَّربوي على تربية النَّاس على أخلاقيَّات الاختلاف، فنبذوا العصبيّات، ودعوا إلى التّواصل وعدم التّباعد، وإلى الحوار الشّامل في كلّ الاتجاهات، واعتبار الرّفق هو الأساس، والعنف هو الاستثناء.

ففي القرآن دعوة واضحة إلى أن تكون الأخلاق هي الَّتي تحكم العلاقة عند الاختلاف: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8].

فلا العاطفة تفقد الإنسان العدالة في الكلمة والموقف، ولا الاختلاف يحجزه عن إعطاء الحقِّ لمن يختلف معه، ولا يدفعه إلى التجنّي عليه، أو إساءة الظنّ به.

واجب الإصلاح

وإلى جانب كلِّ هذا الدَّور التَّربويّ الَّذي يقوم به الأنبياء والأئمَّة، كان التَّأكيد من الله ضرورة تدخّلهم المباشر كإطفائيِّين في المجتمع، يعملون على تقريب وجهات النَّظر، ويمنعون تحوّل الاختلاف إلى ضغائن وأحقاد، وهذا ما دعوا إليه، كما جاء عن الله سبحانه عندما قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً}[النّساء: 35].

هذا في العائلة، أما في المجتمع العام، فكانت الدَّعوة للمؤمنين إلى استنفار جهودهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10].

أمّا إذا ما استعر الخلاف، فعلى المجتمع أن يلجأ إلى استعمال القوَّة لفرض الإصلاح، وإلى هذا أشار الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحجرات : 9].

وحتّى الكذب الّذي هو من الكبائر، جائز في الإصلاح، بل هو واجب في بعض الحالات، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصّادق(ع): "المصلح ليس بكاذب"، وذلك بأن تسمع من أحدهم كلاماً يتحدّث عن آخر بسوء، لكنّك تعكس الأمر وتنقله بخلاف ما سمعت، حتَّى تحلّ المشكلة بينهما.

الرَّسول المُصلح

والصّلح كما هو قيمة في الحياة، هو قيمة عند الله، وله الموقع الكبير عنده، فقد ورد عن رسول الله(ص): "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصِّيام والصَّلاة والصَّدقة؟ إصلاح ذات البين".

ويبقى لنا في رسول الله أسوة حسنة، وهو الَّذي كان المصلح قبل أن يُبعث رسولاً، إذ أصلح بين قبائل مكّة، عندما اختلفوا في من يضع الحجر الأسود في مكانه، وحلَّ إشكالات المائة عام بين الأوس والخزرج.

وكان رسول الله(ص) حريصاً على أن تبقى عيناه مفتوحتين على كلّ الخلافات الّتي يُراد لها أن تعصف بالمسلمين وتشقّ مجتمعهم، وكان اليهود دائماً هم المشكلة، وهو ما حصل مع أبرز مشايخ اليهود، ويدعى شاس بن قيس ـ وهذه القصّة قد تحصل معنا، وفي كلّ زمان ومكان ـ كان هذا الرّجل شديد الحقد على المسلمين، وشديد الحسد لهم، مرَّ ذات يومٍ على مجلسٍ فيه نفرٌ من أصحاب رسول الله، فغاظه ما رأى من ألفتهم واجتماعهم، بعد الّذي كان بينهم من العداوة في الجاهليّة، فأمر شابّاً من اليهود أن يدخل بينهم ويذكِّرهم بالحرب الّتي كانت بينهم ـ أي كما يقولون، يهزّ الودّ بينهم ـ ففعل الشابّ ما أُمِر به، وجرَّ القوم إلى التكلّم عن الماضي، فتفاخروا حتَّى تواثب رجلان، واحدٌ من الأوس، والآخر من الخزرج، وراح أحدهما يهدّد الآخر، وكادت نيران الاقتتال تتأجّج بينهما من جديد، فبلغ ذلك رسول الله(ص)، فخرج إليهم مع بعض أصحابه من المهاجرين، حتّى جاءهم وقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهليَّة وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة، واستنقذكم من الكفر، وألّف به بينكم؟".

فعرف القوم أنّها نزغةٌ من نزغات الشّيطان، وكيدٌ من عدوّهم، فبكوا وعانقوا بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله مطيعين، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدوِّهم.

والأئمّة(ع)، كما رسول الله(ص)، حرصوا على أن يكونوا مصلحين في مجتمعاتهم، وقد وجّه الإمام الصّادق(ع) أصحابه إذا رأوا منازعةً بين اثنين، الى التدخل لحل الخلاف حتى لو اقتضى الأمر أن ينفقوا المال في سبيل ذلك.

لإحياء دور الإصلاح

وهذه المسؤوليّة تابعها العلماء الّذين شكّلوا عبر تاريخهم دور المصلحين بين العشائر والقبائل، وسعوا لحلِّ الخلافات العائليَّة، وصاروا مقصداً لكلّ من استعصت عليهم الحلول. وهو الدّور المطلوب استمراره في كلّ زمانٍ ومكانٍ، والعمل على تطويره وتنظيمه من خلال العاقلين والواعين في المجتمع.

وهذا الدّور يتطلّب ممن يودّ التصدّي له، الحكمة والصّبر والموضوعيّة والعدل والكتمان، وفوق كلّ ذلك: الاستعداد للتّضحية وتحمّل النّتائج...

ونحن بتنا للأسف، نشهد انكفاءً عن القيام بهذا الدّور، إمّا لقلِّة الصّبر على تحمّل مشاكل النّاس، أو نتيجة اللامبالاة تجاه ما يجري من حولنا، أو لتعقيدات ظروف الحياة ونمط العيش. هذا في الوقت الّذي بدأ الغرب يعي أهميّة وجود مصلحين، فأنشأ إلى جانب مراكز القضاء، مراكز تعمل على مساعدة الأفراد والعائلات على حلّ المشاكل الّتي بينهم، بعيداً عن الموادّ القانونيّة الجامدة، وإسلامنا كان له السّبق في ذلك.

أيّها الأحبّة، كم نحن بحاجةٍ في هذه المرحلة إلى العمل الجدّيّ من أجل تفادي النّتائج المدمّرة للخلافات الّتي تعصف بواقعنا، والّتي تربكه وتؤدِّي إلى فقدان الأمن والاستقرار فيه، وذلك بأن يكون هناك اختصاصيّون يطفئون الحرائق حتَّى لا تمتدّ، وكما نسعى إلى وجود مراكز إطفاء للحرائق المادّيّة، فإنّنا بحاجةٍ إلى إيجاد مراكز إطفاءٍ للمشاكل العائليّة والعشائريّة، وفي الأحياء وبين الأديان والمذاهب، لأنّ نتائجها أخطر...

لذلك، الخوف، كلُّ الخوف، عندما لا ننظر بعيونٍ مسؤولةٍ إلى كلِّ الخلافات الَّتي تعصف بواقعنا. وكما يتمُّ علاج الخلاف بعد حصوله، فإنَّ علينا أن ننزع الاسباب التي تؤدي الى اثارة الخلافات وتأجيجها، وذلك بالالتفات إلى كلماتنا الَّتي غالباً ما نطلقها في بيوتنا وأمام أطفالنا، أو في أماكن عملنا، من دون حسابٍ أو تدقيق، ومن دون أن ندرس المكان والزَّمان للحديث بها، لأنَّنا عندما نطلق كلماتنا ـ وحتَّى لو كانت صحيحةً ـ في جوٍّ متوتّر ومتشنِّج، نكون كما لو رمينا شرارةً في أرضٍ مملوءةٍ بالقشّ.

والكلمة عندما تنطلق، لن تستطيع أن تضبط نتائجها. وكم من الكلمات هدّمت بيوتاً، وأنتجت دماراً، وأسقطت أمناً، وأدَّت إلى عداواتٍ لا تلتئم. وكما قال الشّاعر:

جراحات السِّنان لها التئامٌ ولا يلتام ما جَرَح اللِّسانُ

والأمر لا يقف هنا، بل هو مسؤوليَّة بكلِّ نتائجه أمام الله، ولذا ورد أنَّه يؤتى يوم القيامة للإنسان بقارورةٍ فيها دم، فيقال له: هذا نصيبك من دم فلان، فيقول يا ربّ، لم أقتل ولم أجرح، فيقال تكلَّمت بالكلمة، وهذه الكلمة أدَّت إلى فتنةٍ أنت تتحمَّل مسؤوليَّتها.

الابتعاد عن أسلوب الشّتائم

أيّها الأحبَّة، لنسعَ جاهدين إلى أن لا يتحكَّم بنا الانفعال.. فلنبرِّدْ أعصابنا، ونزلْ الأحقاد من قلوبنا فتُزال من قلوب الآخرين، ولنعالج خلافاتنا. ولا بدّ من أن نعرف أنّ أعداءَنا أنشؤوا مراكز للدّراسات لدرس خلافاتنا الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة، والبحث في أفضل السّبل لتفريقنا، وسلاحهم الإشاعات والتَّحريض، والأمر اليوم بات ممنهجاً بوجود وسائل الإعلام بتقنيّاتها وبمن يموِّلها وبمن يقف وراءَها ..

لهذا، مزيداً من الكلمات الطيّبة الّتي تفتح قلوب الآخرين على الحقّ، وتزيل كلّ توتّر وانفعال: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء: 53].

امتداد فتوى السيد(رض) بتحريم الاساءة الى الصحابة وأمهات المؤمنين:

لنبتعد عن كلِّ أساليب الشَّتم والسّبّ واللَّعن، مما اعتدناه عند الاختلاف، فالسّبّ لا ينتج إلا سبّاً.. وهنا، نستذكر الفتوى الّتي أصدرها سماحة السيّد(رض) لوأد الفتنة من أساسها، بعدم جواز سبِّ صحابة رسول الله(ص) أو الإساءة إلى أمّهات المؤمنين، والّتي تابعها السيّد الخامنئي (حفظه الله). ليكن الصّوت دائماً كما قال عليّ(ع): "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّةً".

أيّها الأحبّة، نتطلَّع اليوم إلى العالم من حولنا، فنراه، رغم خلافاته، يتوافق من أجل مصالحه على حساب مصالحنا، فنشعر كم نحن بحاجةٍ إلى من يتطوَّع في درب الإصلاح: توعيةً، وتربيةً، وعملاً، من العقلاء الّذين يئدون الفتن ويطفئون الحرائق.

أيّها الأحبَّة.. إنَّنا متعبون اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، فلماذا نزيد تعبنا من خلال السَّماح للمتهوّرين والانفعاليّين، والَّذين يُتقنون إثارة المشاعر وإطلاق الكلمات غير المسؤولة، بأن يديروا واقعنا ونصغي إليهم.

أيّها الأحبّة، هل نكون المؤمنين الواعين وندرك ما يُحاك لنا؟ هل نكون المصلحين؟ الأمر بأيدينا، وهو مسؤوليَّتنا، فهل نستجيب؟!

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

تضييق الخناق على فلسطين

وتبقى فلسطين المحتلَّة أمَّ القضايا العربيّة والإسلاميّة، ويحاول العدوّ في هذه المرحلة بالذّات، تضييق الخناق على هذه القضيّة، معتمداً كلّ أساليب الإرهاب والتّهويد والتّهويل والاستباحة.

وما نشهده في هذه الأيَّام بالذَّات، تكرارٌ من الصَّهاينة لأساليبهم العدوانيَّة والوحشيَّة، في إحراق المساجد في فلسطين المحتلَّة، كما فعلوا بمسجد الأنبياء في بيت لحم، الَّذي أحرقوه وانتهكوا حرمته، إلى جانب إحراقهم لنسخٍ من القرآن الكريم، فيما يتلهَّى العرب بمشاكلهم، ويغطّ المسلمون في سباتٍ عميقٍ أمام خطر العدوّ، بينما يشحذون السَّكاكين للفتنة الدّاخليَّة لتهيئة مناخات الفتنة المذهبيَّة في مختلف المواقع.

وها هي فلسطين تدفع الأثمان باهظةً من دماء أبنائها، الّذين يغتالهم العدوّ من يومٍ إلى آخر، إضافةً إلى التصرّفات المخزية مع الأسرى في السّجون، على النَّحو الّذي ظهر في شريطٍ مسجَّل مؤخَّراً، إلى ترابها الَّذي يدنِّسه الاستيطان الزَّاحف إلى ما تبقَّى من مساحاتٍ غير مأهولةٍ في قلب الضفَّة، ومن إحراقٍ للمساجد وتدنيسٍ لحرمتها، كنموذجٍ يمكن تكراره مع المسجد الأقصى الّذي يُراد له أن يسقط عن طريق الإحراق أو التّهديم، أو من خلال المخطَّط الجديد الرَّامي إلى تهديم الآثار الإسلاميَّة فيه، وكلّ ذلك تحت نار المفاوضات الهادئة، أو على هدير جرَّافات المستوطنين الّتي تستبيح المزيد من الأراضي، فيما يتحدّث العدوّ مجدّداً عن ملهاة التّجميد لعمليّة الاستيطان، لتستمرّ اللّعبة الدّوليّة الّتي تراقبها الأنظمة العربيّة، فتتبرّع بتأييدها، أو توحي إلى الفلسطينيّين بضرورة الانضباط عند شروطها ومعطياتها...

إنَّ الحرب على فلسطين قد دخلت في آخر المراحل، ولذلك فإنَّ إشاعة مناخات الفتنة في البلدان والمواقع المحيطة بها، هي الشّرارات التي يُراد لها أن تسمح بتمرير السّيطرة على قدس الأقداس، على وقع الفتن المتنقّلة هنا وهناك.

ولعلَّ من اللافت للانتباه، أنَّ بعض المسؤولين العرب يؤكِّدون ضرورة الانصياع لقرارات المجتمع الدَّوليّ، فيما يتناسون التَّذكير بقرارات الأمم المتّحدة فيما يتّصل بحقّ العودة وتقرير المصير والأرض المحتلّة وما إلى ذلك، لتبقى العناوين القضائيّة الدّوليّة سيفاً مسلطاً على العرب والمسلمين، وليحظى العدوّ بمزيدٍ من الحماية، حتّى مع صدور قرار "غولدستون"، ومع الجرائم الّتي ارتكبها العدوّ في غزّة، وضدّ أسطول الحرّيّة مؤخّراً، حيث لا محاكم دوليّة ولا من يحاكمون..

خطّة الغرب: التّخويف من الإسلام

وإلى جانب ذلك، تتوالى الأخبار حول تحذيراتٍ متواصلةٍ من الإدارات الغربيَّة المتعدّدة حول تفجيراتٍ قد تقع في هذه الدّولة الأوروبيَّة أو تلك الأمريكيَّة، ليتقدَّم عنوان "الإرهاب الإسلاميّ" إلى الواجهة الإعلاميَّة والسياسيّة الغربيّة، في سياق خطّةٍ مدروسةٍ للتّخويف من الإسلام، ولتطويق حركة الهجرة العربيّة أو الإسلاميّة باتّجاه هذه الدّول، ولتقديم الإسلام كهاجسٍ أمنيٍّ يؤرّق الغربيّين دائماً..

إنَّنا في الوقت الّذي نرفض أيَّ اعتداءٍ على الآمنين، أو على وسائل النّقل والنّظام العام في البلدان الغربيّة وغيرها، نرفض زجّ اسم الإسلام في هذه الأحداث أو التّخويف منه، أو القيام بحملاتٍ عنصريّةٍ تستهدف المسلمين في بلاد الغرب، تحت هذه الحجج والذّرائع الّتي باتت مكشوفةً ومعروفة الأهداف والغايات...

حرب تشرين: إمكانيّة قهر العدوّ

وإلى جانب ذلك، نلتقي في هذه الأيّام بذكرى حرب تشرين، الّتي أطلقت إشارةً حاسمةً إلى إمكانيّة قهر العدوّ، على الرّغم من تضافر جهود الكثير من المتواطئين والخاضعين للمنطق الأمريكيّ، لجعلها تجربةً محدودة، أو لمنعها من أن تكتمل وتصل إلى نتائجها الكبيرة، وقد أظهرت وثائق هذه الحرب الّتي نشرتها وسائل إعلام العدوّ مؤخّراً، مدى الخوف الّذي هزّ الصّهاينة وكيان العدوّ عند انكسار جيشهم، وكيف صرخ وزير حرب العدوّ يومها، موشيه دايان، قائلاً: إنّهم يريدون القضاء على اليهود...

إنّنا نريد لهذه الذّكرى الّتي يتحدّث العدوّ عن مرارتها، ويربطها بإخفاقاته اللاحقة في لبنان، وخصوصاً حرب تمّوز، أن تتحوّل إلى هاجسٍ له، من خلال الإعداد الميدانيّ المستمرّ لمنعه من تحقيق أهدافه في مباغتة لبنان، أو القيام بأيّة حماقةٍ تستهدف الكيان العربيّ والإسلاميّ.

أمّا الإدارة الأمريكيّة الّتي تتباكى في هذه الأيّام على لبنان، وتدعو سوريا إلى احترام سيادته، فهي لا تنبس ببنت شفةٍ حول الانتهاكات الصّهيونيّة اليوميّة لهذه السّيادة، وهي الّتي كانت ولا تزال تتدخّل في الشّؤون اللّبنانيّة الدّاخليّة، وفي التّفاصيل السياسيّة والانتخابيّة، وليست زيارة نائب الرّئيس الأمريكي "بايدن" إلى لبنان، وما جرى خلالها، ببعيدة عن أذهان اللّبنانيّين، ولذلك ننصح المتباكين وذارفي دموع السّيادة على أبواب زيارة الرّئيس الإيراني للبنان، أن ينظروا إلى الواقع بعيونٍ مفتوحة، ليبصروا مدى حرص إيران وسوريا على سيادة لبنان، وما يعمل له العدوّ بالتّعاون مع أمريكا لهتك هذه السّيادة وتدميرها...

لبنان: لتعطيل لغم المحكمة الدولية

إنّنا نقول للّبنانيّين: لقد دخل لبنان في المرحلة الصَّعبة والخطرة، بفعل الخطَّة الدّوليَّة السّاعية لاستخدامه كورقةٍ في الصّفقات الدّوليَّة والإقليميَّة الّتي تسعى الإدارة الأمريكيَّة لعقدها مع أكثر من محورٍ في المنطقة، والّتي تعمل من خلالها لسحب كلِّ عناصر القوَّة والممانعة من أيدي العرب والمسلمين، وخصوصاً سلاح المقاومة في لبنان، والمطلوب هو أن يسقط الأمن اللّبنانيّ العربيّ كثمرةٍ ناضجةٍ بيد أمريكا والعدوّ، لحساب "يهوديّة الدّولة" الّتي يعمل المبعوث الأمريكيّ على الوصول إليها من نافذة المفاوضات المباشرة.

ولذلك، فإنَّ المطلوب هو الدَّفع بحركةٍ لبنانيَّةٍ ميدانيَّةٍ وسياسيَّةٍ واعية، لإغلاق المنافذ على الخطّة الأمريكيّة الجهنّميّة. وعلى اللّبنانيّين أن يأخذوا بزمام المبادرة، لتعطيل اللّغم الكبير الّذي زُرع من خلال المحكمة الدّوليّة، وبالتّالي، لا بدَّ من الانتقال من مرحلة التَّراشق الكلاميّ، إلى مرحلة العمل الجدّيّ والسّريع، قبل أن تداهمنا ظروف المنطقة ومعطيات الخطَّة الاستكباريَّة الدّوليَّة، فيسقط الهيكل اللّبنانيّ على رؤوس الجميع، ويقع الوطن في قبضة الاغتيال والملاحقة والمصادرة.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 30 شوَّال 1431 هـ الموافق: 08/10/2010 م